الصين تُحيي النصر.. وتُعيد تعريف القوة .. من ذاكرة الحرب إلى هندسة السلام

الشروق نت / في قلب العاصمة الصينية بكين، وعلى إيقاع الطبول العسكرية ونبض الذاكرة التاريخية، وقفت الصين مرفوعة الرأس، تستعيد لحظة فاصلة من تاريخها، وتُعيد إحياء الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصارها على الاحتلال الياباني. لم يكن الاستعراض العسكري الذي شهدته ساحة تيان آن من مجرد تكرار لطقس سياسي أو بروتوكول احتفالي، بل كان مشهداً مركباً مفعماً بالرمزية، تكشّف فيه الماضي والحاضر، وتقاطعت فيه الذاكرة القومية مع الطموحات الجيوسياسية، وسط عالم لا يزال يتخبّط في صراعات المصالح وتغير ملامح موازين القوى.
تقدّمت القوات الصينية بصفوفٍ منتظمة كأنها نبض أمةٍ لم تنسَ ثمن حريتها، وبينما علت في السماء تشكيلات جوية ترسم لوحات فخر مهيبة، كانت المنصّة الرئاسية تستقبل ضيوفًا بوزن الجغرافيا والسياسة: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، إلى جانب رؤساء وقادة دول من آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، في مشهد بدا كأنه إعلان غير مباشر عن تكتّل دولي يختار الصين بوصلته في مواجهة العالم الأحادي القطب. لقد تحوّل العرض إلى رسالة ذات طبقات متعددة؛ عسكرية في ظاهرها، لكنها سياسية في مضمونها، واستراتيجية في أفقها.
الرئيس الصيني شي جين بينغ، بقامته الهادئة ونبرته الواثقة، ألقى خطابًا حمل روح أمةٍ خرجت من رماد الحرب لتصبح حجر زاوية في النظام الدولي الجديد. لم يكن مجرد استحضار لتاريخ دموي، بل تجسيد لرؤية حضارية ترى أن السلام لا يولد من الضعف، بل من التوازن، وأن التعايش لا يكون حقيقيًا إلا إذا بُني على الاحترام المتبادل بين الشعوب والدول. قالها بوضوح: “نتذكّر الحرب لا لنُشعل نارًا قديمة، بل لنُطفئ احتمالات حروب جديدة.” تلك العبارة، على بساطتها، كانت بمثابة قلب الخطاب الصيني العالمي: لا عدوان، ولكن لا خضوع؛ سلام، ولكن من موقع القوة لا التوسل.
ما عُرض على الأرض تجاوز الاحتفاء الرمزي إلى استعراض دقيق للجاهزية الشاملة. صواريخ DF-41 بعيدة المدى، القادرة على حمل رؤوس نووية متعددة، تصدّرت العرض، إلى جانب طائرات شبحية، وأسلحة فرط صوتية، وأنظمة إلكترونية متطورة توحي بأن الصين لا تطوّر جيشًا فقط، بل تبني مظلة استراتيجية كاملة تُغطي الفضاء، السيبر، والمياه الدولية. ولعلّ من أبرز الإضافات اللافتة في هذا العرض كان الكشف عن جيل جديد من الأسلحة الآلية ذات الذكاء الاصطناعي المدمج — مركبات قتالية غير مأهولة (UCGVs)، وطائرات درون هجومية من طرازات مبتكرة قادرة على التنسيق التلقائي فيما بينها، إلى جانب روبوتات أرضية مدرعة، مُجهّزة بأنظمة استشعار فورية واتخاذ قرار مستقل في الميدان. كما ظهرت تشكيلات جديدة غير تقليدية تضم وحدات “القتال السيبراني”، وفرق “الحرب الإدراكية”، في إشارة واضحة إلى انتقال الجيش الصيني من مفهوم القوة التقليدية إلى مفهوم الجيل القادم من الحروب الهجينة، التي تُخاض بالبيانات كما تُخاض بالسلاح.
لكنها، في المقابل، لم تعرض أسلحتها كأدوات تهديد، بل كصمامات أمان لضمان توازن الردع، ومنع أي استعلاء إمبراطوري قد يُغري بالعدوان أو التطويق.
غير أن الرسالة الأقوى لم تكن مرئية فحسب، بل متجذّرة في السياسات العميقة التي تتبعها الصين في العقدين الأخيرين، حيث تجاوزت مفهوم القوة العسكرية إلى بناء نموذج شامل للتأثير الدولي يقوم على الشراكة لا السيطرة، على الاستثمار لا الابتزاز، وعلى التعاون لا الهيمنة. ومثال ذلك، الحضور الصيني المتعاظم في القارة الإفريقية، ليس كمجرد مستثمر اقتصادي، بل كفاعل تنموي وشريك استراتيجي يُعيد رسم معالم العلاقة بين الشمال والجنوب. في موريتانيا، على سبيل المثال، لم تقتصر العلاقات على مشاريع البنية التحتية، بل امتدت إلى دعم تقني، وتكوين بشري، وشراكات ثقافية، تُجسّد روح الندية والاحترام المتبادل التي تسعى الصين لترسيخها في علاقاتها الدولية.
إنّ ما تسعى إليه الصين، بقيادة شي جين بينغ، يتجاوز فكرة القوّة الصلبة أو حتى الناعمة؛ إنها تسعى إلى بناء ما يمكن تسميته بـ”القوة الحضارية” — مزيج من التاريخ، والرؤية، والابتكار، والتأثير الأخلاقي، يُعطي لبكين القدرة على مخاطبة العالم بلغة جديدة، ليست استعمارية، ولا تبشيرية، بل إنسانية، عقلانية، شاملة. وهي، في هذا المسعى، لا تُجاري النموذج الغربي ولا تُعارضه حرفيًا، بل تُقدّم بديلًا ثالثًا، أقل ضجيجًا، وأكثر عُمقًا.
لقد كان استعراض بكين العسكري لحظة رمزية ذات أبعاد بعيدة الغور؛ فهو لم يكن مجرد تذكير بانتصار عسكري مضى عليه ثمانية عقود، بل كان رسمًا متجددًا لدور الصين كفاعل مركزي في هندسة السلام العالمي. وهي، إذ تفعل ذلك، لا تستند فقط إلى اقتصاد عملاق، أو جيش متطور، بل إلى سردية تاريخية تُؤمن بأن من عانى من الاحتلال والاستضعاف، هو الأجدر بقيادة مشروع عالمي يُنهي منطق الإخضاع، ويبني مكانه نظامًا جديدًا من التعاون والتعددية والاحترام.
وهكذا، فإن الصين، بوعيها التاريخي العميق، ورؤيتها المستقبلية المتوازنة، تضع نفسها في مفترق طرق الحضارات، لا كندّ أو خصم، بل كجسر. وتعلن للعالم أن مَن صاغ ذاكرة النصر، يملك أيضًا قدرة صناعة السلام..
#عالي أحمد سالم الملقب البو