إسرائيل يعيش ارتباكا وجوديا متناميا
الشروق نت / رغم تهديد العملية الفلسطينية الضخمة “طوفان الأقصى” الوجود الإسرائيلي بشكل كامل وشعور كل مكونات المجتمع الإسرائيلي بالخطر الحقيقي بعد 50 عاما على حرب أكتوبر، عندما هاجمت مصر وسوريا الكيان الإسرائيلي وبفارق 50 عاما ويوم، عاد الخوف الوجودي يهدد مشروع الاحتلال برمته. في أجواء خطر كهذه كان المجتمع الإسرائيلي ينسى خلافاته الكثيرة ويتحد، لكن هذه المرة زاد التحدي من حجم الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي ولم تخفت أصوات المعارضين من الصراخ بالصوت العالي: “ارحل يا نتنياهو”.
الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي وقفت في وجه حكومة اليمين على مدار 10 أشهر بشكل متوال، بمعدل تجمع حاشد يصل مئات الآلاف كل يوم سبت لمنع قيام نتنياهو وشركائه الجدد من تمرير ما أسماه “الإصلاح القضائي” لإدخال الشريعة اليهودية في نظام الحكم العلماني ومنح صلاحيات أكبر للسلطة التنفيذية على حساب الدور الأساسي لجهاز القضاء الذي يحل محل الدستور في الرقابة على السلطات والفصل بينها.
الإصلاح القضائي النقطة التي أفاضت الكأس
وضع الحرب على غزة أجل النقاش حول ملف الإصلاح القضائي باعتباره أهم صراع بين مكونات كبرى من المجتمع الإسرائيلي، لتظهر أشكال جديدة من الانقسام أهمها تجمع عائلات الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية في غزة للمطالبة بصفقة تبادل وعودة الأسرى إلى ذويهم. فكرة الضغط على الحكومة الإسرائيلية لا تقتصر على إعادة الأسرى بل تعود بالأساس لتقصير الحكومة في حماية المستوطنين في غلاف غزة، وهو الأمر الذي أرجئ التحقيق فيه لما بعد الحرب على غزة وإن كان البعض يرى أن نتنياهو سيطيل عمر الحرب خشية الذهاب المًحقق إلى السجن بعد فتح ملفه الكبير من الفساد والتقصير وحيازة السلطة بأي شكل من الأشكال.
في قراءة سريعة في تركيبة دولة الاحتلال الإسرائيلي يقترب عدد السكان من 9.5 ملايين نسمة في مجموعة واسعة من المجتمعات، ويعد اليهود أكبر مجموعة سكانية في الكيان ويمثلون الغالبية العظمى من السكان، إلا أن خلفياتهم الثقافية تتعدد لدرجة الصراع والتناقض. يعد الدين اليهودي هو الدين الرئيسي للمجتمع اليهودي في إسرائيل، منهم اليهود الأشكناز القادمون من أوروبا والجزء الشرقي منها، واليهود السفارديم المهاجرون من البلقان والشرق الأوسط.
ويعد الفلسطينيون العرب التكتل الثاني من حيث السكان وهم الذين يعيشون في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 ويتحدثون اللغة العربية ويعتنقون الإسلام والمسيحية، فيما يعتبر الدروز مجموعة دينية وعرقية مستقلة في الكيان ويعيشون بشكل رئيسي في منطقة الجليل وجبل الكرمل. يعتنق الدروز ديانة خاصة بهم، وهي تعد تفسيرا مستقلا عن الإسلام، كما تضم التركيبة السكانية أقليات دينية وعرقية أخرى. تشمل هذه الأقليات المسيحيين (سواء العرب المسيحيين أو المسيحيين الإسرائيليين) والبهائيين والقبائل الدرزية الأخرى والمهاجرين اليهود من بلدان أخرى.وتفيد دائرة الإحصاء المركزية بأن عدد اليهود في إسرائيل 7.145 مليون نسمة ويشكلون 73.5% من السكان، بينما بلغ عدد السكان العرب 2.048 مليون نسمة (21%)، بينهم أكثر من 400 ألف في المناطق المحتلة، إضافة إلى 534 ألف (5.5%) يوصفون بآخرين، وهم مسيحيون ليسوا عربا وأبناء ديانات أخرى أو من دون تصنيفهم دينيا في السجل السكاني في وزارة الداخلية وغالبيتهم العظمى من المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق.
ازداد عدد سكان إسرائيل بمقدار 216 ألف نسمة خلال عام وبلغت نسبة النمو السكاني 2.3%، حيث ولد ما يقرب من 183 ألف مولود وتوفي ما يقرب من 51 ألف شخص. وقد هاجر إلى إسرائيل خلال هذه الفترة 79 ألف شخص بموجب القانون الذي يسمح بهجرة اليهود وعائلاتهم إلى الأرض المحتلة.
وأشارت دائرة الإحصاء المركزية إلى أن عدد سكان الكيان عند الإعلان عن قيام دولة الاحتلال عام 1948 بلغ 806 ألف نسمة، أي أن عدد السكان اليوم يقدر بـ12 ضعفا من عدد السكان عند قيام دولة الاحتلال.
منذ الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني إبان نكبة عام 1948، هاجر إلى الأرض المحتلة 3.3 ملايين شخص بموجب القانون الذي يسمح بهجرة اليهود وعائلاتهم، كما هاجر (1.5 مليون يهودي) منذ عام 1990.
وحسب توقعات دائرة الإحصاء، فإن عدد سكان إسرائيل سيبلغ 11.1 مليون نسمة في عام 2030. وتشير المعطيات كذلك إلى أنه في نهاية عام 2021 كان حوالي 46% من إجمالي السكان اليهود في العالم يعيشون في إسرائيل وحوالي 79% من اليهود قد ولدوا في الدولة العبرية.أما على صعيد التصنيف العمري، أفادت المعطيات بأن معظم سكان إسرائيل هم من الشباب: حوالي 28% هم من الأطفال (حتى 14 عاما) وحوالي 12% يبلغون من العمر 65 عامًا وما فوق.
وأوضح الباحث في الشأن الإسرائيلي صالح النعامي أن المعطيات الديموغرافية تخدم الجناح الديني المتشدد الذي يتكون من 3 كتل ديموغرافية مهمة، أهمهم المتدينون الحريديم؛ لأن هؤلاء متوسط الإنجاب لديهم نحو 7 ولادات، وبالتالي يزداد عددهم كل عام ومن ثم يزداد نفوذهم السياسي والتأثير في الانتخابات.
أما الكتلة الثانية فهم اليهود الشرقيون الذين يصوّتون تقليديا لليمين الديني المحافظ أو اليمين الديني المتشدد، والكتلة الثالثة هي اليهود الجدد من روسيا أو من الدول التي كانت تحت الاتحاد السوفياتي. وتسخر هذه الكتل في قوتها لصالح اليمين المتطرف وحساباته الانتخابية على حساب التيارات العلمانية أو معسكر الوسط الصهيوني.
يقول المحلل السياسي جهاد حرب إن الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي مستمر خاصة عند تناول قانون القضاء أو تعديل قانون القضاء ومكانة السلطة القضائية في النظام السياسي الإسرائيلي.
الجيش.. البقرة التي لم تعد مقدسة
ويرى حرب أن دولة الاحتلال واجهت صدمة واسعة وكبيرة، لذلك اصطفت جميع الشرائح المختلفة خلف حكومة الحرب، إلا أنه بعد مرور وقت قصير بدأت تتكشف مسائل متعددة منها ما يتعلق بمكانة الجيش في الدولة والمجتمع الإسرائيلي، هذه البقرة المقدسة التي لم يكن أحد يستطيع أو يرغب أو لديه الإمكانية الحديث حولها. وجاءت الخلافات الجديدة حول دور الجيش وقدرته على توفير الأمن للمجتمع الإسرائيلي الذي يدفع ضرائب مقابل خدمة احترافية من الجيش، وفق الكاتب حرب.
وبذلك عاد الانقسام بسرعة لكن أضيف له مجال جديد حول أهلية الجيش وقدرته على مجابهة التحديات الأمنية والعسكرية، إضافة إلى الخلاف الجوهري مع الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو الذي يرفض حتى الآن الاعتراف بالفشل أو تحمل المسؤولية حول ما جرى في السابع من أكتوبر، في الوقت الذي يعترف ويقر به العديد الوزراء.
الانقسام تطور مع وصول التيار الديني القومي المتطرف والتيارات الدينية الصهيونية إلى سدة الحكم في تل أبيب وما يحمله من برنامج سياسي واجتماعي واستيطاني، يحضر لتحولات عميقة في المجتمع الإسرائيلي والنظام السياسي الحاكم.
كان الصراع بين اليمين المتشدد والتيارات العلمانية والمؤسسة العسكرية والأمنية التي لم تر في رئيس الحكومة نتنياهو الوسط بل وضعته على رأس اليمين المتطرف، خاصة أن هذه التيارات تنال دعم ورضا الإدارة الأمريكية التي ساندت التظاهرات الكبيرة ومطالبها. التظاهرات في الميادين صاحبها امتناع قطاعات واسعة من جنود الاحتياط عن الالتحاق بالخدمة ورفض ضباط في سلاح الجو القيام بمهامهم والدخول في إضرابات متكررة.
على وقع هذه الخلافات جاءت عملية “طوفان الأقصى” لتضرب على رأس كيان الاحتلال وتزيد من عمق الأزمة وتعزز مسارات انعدام الثقة بين أطراف الأزمة. فالفشل الاستخباري والعسكري الكبير الذي مُنيت به المؤسسة العسكرية والأمنية للاحتلال يوم 7 أكتوبر أضعف من موقفهم الداخلي بشكل كبير.
ذلك ما أدركته الإدارة الأمريكية منذ اللحظة الأولى وعملت على تولي زمام المبادرة في المحافظة على تماسك الوضع الداخلي لإسرائيل وعلى إدخال مكونات من المعارضة في حكومة تبدو كأنّها حكومة “وحدة وطنية” ضمت وزير الحرب السابق بيني غانتس لحكومة نتنياهو، في إشارة إلى تجاوز الخلاف الداخلي أمام هذا التحدي الوجودي الذي يهدّد دولة الاحتلال.
ملف الأسرى قنبلة موقوتة
القضية الأخرى التي تعكس حالة الخلاف الداخلي وقد تمثل منعطفا داخليا جديدا وعنوانا لمعارضة واسعة ضدّ حكومة نتنياهو ومجلس الحرب الذي يقوده، هي قضية الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية.
وتشهد القضية توسعا في توظيفها للضغط على نتنياهو ودفعه لتقديم تنازلات للمقاومة الفلسطينية مقابل الإفراج عن أسرى الاحتلال، وقد استطاع أهالي الأسرى تشكيل هيئة تنسيقية لإدارة الموقف لديهم وتنظيم مظاهرات بدأت تتسع مع الوقت، وقد بلغت خلال الأيام الأخيرة ذروة متقدمة في الضغط على نتنياهو في أعقاب تصريحات الناطق باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، ومن ثَمَّ جرى إعطاء التصريحات دفعة من الجدية والتأثير عبر تصريح لقائد حماس في غزة، يحيى السنوار، الذي عبّر عن استعداد حركة حماس لعقد صفقة أسرى شاملة بإطلاق سراح جميع أسرى الاحتلال مقابل الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين. هذه القضايا الخلافية تعد مجرّد استمرار لمسار طويل من الخلافات الداخلية وفقدان القدرة على ضبط النفس لدى قادة الاحتلال في تجنيب الخلافات الفكرية والعرقية والسياسية بينهم.
ومع إطالة أمد المعركة وعجز الاحتلال عن تحقيق أهدافه المعلنة من الحملة وتكبده مزيدا من الخسائر في حال شن عملية برية واسعة ضد قطاع غزة، وفي ظل حالة الشد والتوتر والاستنفار الكبير في الجبهة الداخلية الضاغط على الاقتصاد والحياة العامة.. فإن احتمالية أن تشهد البيئة السياسية للاحتلال مزيدا من التفكك والتوترات الداخلية تتصاعد مع الوقت.
الخلاصة أن عملية “طوفان الأقصى” أثرت سلبا على مكانة اليمين المتطرف وخطابه وأن هذا الانقسام أثر على القدرات العسكرية للجيش، فالكثير من القوات التي كان من المفترض أن تكون في محيط غزة تم نقلها إلى الضفة لحماية المستوطنات خدمة لأهداف هذه النخبة الدينية المتشددة، وهناك اتهام بالفشل وأنهم مجرد هواة في السياسة ومشاركتهم في الحكم كانت على حساب مستقبل الكيان العبري.