باريس تخسر أوراق نفوذها في منطقة الساحل.. (تحليل )
الشروق نت / بالتحاق السلطة الجديدة في النيجر بركب مالي وبوركينافاسو، تكون حسابات فرنسا في منطقة الساحل قد سقطت مثل أحجار الدومينو، بعدما اعتقدت أن ترحيل قوات “برخان” العسكرية من مالي باتجاه نيامي سيمكنها من الحفاظ ولو شكليا على “مجموعة 5 ساحل” التي أسستها لمحاصرة مبادرة “دول الميدان” التي قادتها الجزائر رفقة دول الساحل.
لكن أظهرت التطورات الميدانية في السنوات الأخيرة أن باريس لم تجن سوى زيادة شعور الرفض الشعبي ضد تواجدها العسكري في الساحل، بسبب ممارسات ما يسمى “سياسة فرانس أفريك”.
بتنفيذ انقلاب عسكري في النيجر ضد حكم الرئيس محمد بازوم، تطرح علامة استفهام كبيرة حول مستقبل تواجد قوات “برخان” العسكرية الفرنسية فوق الأراضي النيجيرية، وهي التي رحلت قبل أشهر قليلة من مالي بطلب من السلطة الجديدة في باماكو التي أعلنت رفضها للتواجد العسكري الفرنسي فوق أرضيها، قبل أن تلتحق بها بوركينافاسو التي طلبت هي الأخرى من ساسة باريس بترحيل عساكرها من ترابها.
ومن شأن التطورات التي وقعت في النيجر أن تدق آخر مسمار في نعش ما يسمى “القوة العسكرية لمجموعة 5 ساحل” التي تضم 5 آلاف عسكري من موريتانيا، مالي، النيجر، التشاد وبوركينافاسو، ما يعني أن باريس التي رمت بكل ثقلها العسكري في الساحل، بحجة محاربة الإرهاب، قد فشلت فشلا ذريعا، ليس عسكريا فحسب بل سياسيا وشعبيا، بعدما تحول التواجد العسكري الفرنسي في الساحل إلى مصدر غضب وثورة شعوب المنطقة التي طالبت برحيلها كليا.
هذه التدخلات الأجنبية الخارجية، التي أضحت مصدر إزعاج لدى شعوب منطقة الساحل، إنما تولدت لغياب حلول رغم عسكرة المنطقة بشكل غير مسبوق. وبالنتيجة توجد اليوم أكثر من 14 “مبادرة أو استراتيجية” متعددة الأطراف تخص تنمية الساحل وعدت بها هيئات دولية ومالية ومنظمات جهوية وقارية لكنها لم تجد طريقها إلى الميدان، حيث اقتصرت معالجة أزمة منطقة الساحل على الخيار العسكري. إذ زيادة على الـ12 ألف عسكري من قوات حفظ السلام الأممية (مينسما) و4 آلاف عسكري من قوات “برخان” الفرنسية، قررت فرنسا أيضا إنشاء مجموعة قوات 5 ساحل التي قوامها 5 آلاف جندي تتشكل من موريتانيا، مالي، النيجر، التشاد وبوركينافاسو، مهمتها محاربة الإرهاب في الساحل الذي لم تنجح القوات الفرنسية في وقف تمدده في المنطقة منذ تدخلها العام 2012.
وعندما يسجل مركز “كارنيجي” أن الاتحاد الأوروبي لا يتعامل مع الجزائر كشريك لمحاربة الإرهاب في الساحل بل يريدها كمقاول فقط، فذلك يعني أن “النوايا” الفرنسية المعلنة ليست هي نفسها المراد تحقيقها على الأرض.
لقد عملت الجزائر بكل ما تملكه من علاقات من أجل جلوس الفرقاء الماليين حول نفس الطاولة والتوصل معهم إلى إبرام “اتفاق السلم والمصالحة”، لكن تنفيذه على الأرض لا يزال يواجه عقبات مصطنعة ما يطرح علامات استفهام عديدة، وهي نفس علامات الاستفهام المطروحة بشأن محاصرة وتجاهل مبادرة الجزائر المتمثلة في “دول الميدان” التي كانت تجمع دول الساحل وأيضا قيادة الأركان العملياتية التي كان مقرها في تمنراست لتنسيق جهود محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة والتهريب وتأمين الحدود المشتركة.
للتذكير، أُنشئت هيئة الأركان العملياتية المشتركة بين جيوش الدول الأربع في 13 أفريل عام 2010 ومقرها يقع في مدينة تمنراست جنوبي الجزائر وأُنشئت لاحقا خلية استعلامات مشتركة “تتكفل بمهمة جمع المعلومات والمعطيات الاستخباراتية وتحليلها وتهدف إلى تعزيز التنسيق الأمني والميداني والمعلوماتي”.
لكن هذه المبادرة التي كانت تشكل إطارا للحوار بين دول الساحل وحققت العديد من النتائج الميدانية قوبلت بحصار لتحجيم دورها والتقليل من أهميتها، ومع ذلك ظلت صامدة لأنها وليدة إرادة سياسية مشتركة بين دول الميدان ويحكمها الاحترام المتبادل.
وما يسجل في هذا الإطار أن الدعم الدولي الموجه لاتفاق المصالحة والسلم في مالي، الذي تقود الجزائر الوساطة فيه، يفتقد الدعم الذي كانت تحظى به القوة العسكرية لدول 5 ساحل الذي كانت باريس تروج له في كل القارات وتشحذ له الدعم المالي لإنجاحه بأقصى سرعة ممكنة، رغم اعتراف الجميع بأن تحقيق الاتفاق السياسي بين الفصائل المالية شرط أساسي للنجاح في محاربة الإرهاب في الساحل.
ما حدث في النيجر هو إعلان رسمي إضافي لموت وفشل مبادرة مجموعة5 ساحل التي كانت تقودها باريس منذ عام 2013، وهو ما يعطي إمكانية كبيرة لدفع مبادرة دول “الميدان” التي قادتها الجزائر والتي كانت تشتغل على ثلاثة محددات أساسية مترابطة، وهي التركيز على التنمية والأمن واستبعاد الوجود الأجنبي واحترام الخصوصيات المحلية للمنطقة.
للإشارة، منطقة الساحل ليس كما يراد تصويرها بالمنطقة القاحلة، بل تزخر بثروات باطنية ومعادن هائلة من أورانيوم (فرنسا تحقق 20 بالمائة من احتياجاتها من أورانيوم النيجر) وذهب وفوسفات وغيرها، ما يجعلها محل تضارب مصالح جيواستراتيجية كبيرة، يعد الإرهاب الوجه البشع الظاهر منها، بينما يتم السعي لاستغلال ذلك لتنفيذ أجندات أجنبية لا تخدم شعوب المنطقة، حيث تسير الخطط العسكرية بسرعة قياسية في حين كل ما يتعلق بالتنمية ومحاربة الفقر والتغيرات المناخية يسير بخطى السلحفاة، وهو من ضمن أسباب ثوران شعوب منطقة الساحل ضد القوة الاستعمارية السابقة فرنسا.