النشيد الوطني: بين الشابي وأمين! بقلم / دداه محمد الأمين الهادي
استدارت سيارة السائق “رضوان” يمينا إلى شارع لحبيب بورقيبه، في تونس العاصمة، وسرحت في الصورة، المرتسمة بأناقة على الدنانير التونسية، لقد بدت الصورة مألوفة عندي، وفي لمح البصر وقعت عيناي على الاسم المكتوب تحت الصورة، ولم تكن الصورة لغيره، إنها صورة أبي القاسم الشابي.
وأبو القاسم الشابي هو شاعر تونس الأكبر، ومصيبة أدبها الكبرى، هو الأكثر إبداعا وإمتاعا، وهو الذي ما إن أكمل 25 حتى فارق الحياة، تاركا ديوانه “أغاني الحياة”، وكتابه النقدي “الخيال الشعري عند العرب”.
قاطعني صوت رضوان، فقلت له: هذه صورة الشابي على النقود، وهو مات معدما فقيرا، تجلده سياط الزمن، وتقسو على جسده النحيل حياة العوز والفاقة، ويئن تحت وطأة المرض، ومرارة فقد الأهل والأحبة ….، عندما يرحلون تكرمهم الأوطان، وقبل الرحيل يعيشون بين الناس غرباء، ينحتون من ألمهم وصبرهم قصائد الخلود!
قال رضوان بصوت مبحوح: فعلا يا أخي “دى دى” ـ هكذا ينطق اسمي بالإمالة أيضا.
وفي المساء غادرت تونس الخضراء، ونادى منادي الصباح الشنقيطي: .”حي على النشيد”، فامتلأت صفحات الأنترنت به، وتبارى المدونون والكتاب والشعراء و”البلاطجة” ينتقدون، ساعة ـوهي الأقل ـ بالإعجاب، وساعة ـوهي الأكثرـ بالسب والقذف والشتم والمساس باللجنة وراعيها.
جلست أتأمل وأقرأ وأردد بنفسي، لكن البارود لم تتطاير شظاياه، غير أن المارد لم يمت بشكل كلي، وإن كانت بندقيته طمرها الثلج …. رددت الأبيات رددتها، واستحضرت أوجه بعض قائليها، وحتى بعضا من أدبهم، إن من بينهم فعلا فضلاء من ذوي الأخلاق الرفيعة، عبر نشيدهم عن أدبهم الأخلاقي، أكثر بكثير من تعبيره عن ذواتهم المبدعة.
سألت نفسي أين هذا من الشابي … من مطلع إرادة الحياة: “إذا الشعب يوما أراد الحياة ـ فلا بد أن يستجيب القدر”، لا أشك شخصيا في أن منا ومن شعرائنا وأدبائنا من لا يريد الحياة، لقد أحزنني النشيد صراحة، وأقولها صراحة : “لم يرض الدين، وأغضب الفلسفة”، فلا نحن أبناء الدين على ما كان من مجد يشتهى، نردد :”كن للإله ناصرا ـ وأنكر المناكرا”، ونذوب في الفيض الأقدس، ولا نحن النزق الشعري المتطاير شررا من عيون تتماهى فيها الأفرقة والعروبة، يضج في مقلها النصر، تصيح طبوله موقظة فينا الحماس المتلاهب.
“يا أمنا .. يا أمنا .. لك الحنان والجنا ـ في الأرض يستجلى المنى .. في الأرض يستمرا الهنا …ـ إلى أن يقول: يا أرضنا يا أرضنا … خذي إليك عهدنا ـ أن نفتديك بالقنا .. شبابنا وشيبنا … ـ يا أمنا يا أمنا ” … وطفقت ألحن تعاويذ فاضل أمين، فإذا بمشاعري كجيش من المغول والتتار يملأ الفضاء متراقصا، ثم تطويه الأرض تحت خاصرتها ترحيبا بالفاتحين …
إن الإبداع لا يرتبط بالطلب، ولا يعترف بالحساب، والشابي وفاضل أمين نجمان من مجرة واحدة، بالكاد عاشا، بالكاد مرا كمذنبين مضيئين مسرعين، و إن كانا آسرين، ماتا في ريعان شبابهما، وتركا لنا جوهر الإبداع …
ولأن يكون “نشيد الأرض” لفاضل أمين نشيدنا الوطني أحب إلينا من أن تبنى أبيات نشيدنا على هوى جميع اللجنة ـوفيها غير الشعراء مع الشعراء و أصحاب الذائقة الضعيفةـ فلا تسقف كالبيوت المبناة على ذائقة الكل … لكن للأسف لم نعترف بعد بالإبداع بقدر ربع تراخيصنا الممنوحة “للتبتيب”!