ملف فساد قطاع المحروقات والطاقة: تقرير محكمة الحسابات يدق ناقوس الخطر

الشروق نت / في تقريرها السنوي لعامي 2022-2023، كشفت محكمة الحسابات عن خروقات جسيمة وملامح فساد عميق تنخر قطاع المحروقات والطاقة في موريتانيا، أحد أكثر القطاعات حيوية واستراتيجية في الاقتصاد الوطني.
فقد أماط التقرير اللثام عن سلسلة من التجاوزات القانونية والمالية والإدارية، طالت عمليات منح العقود والرخص، والرقابة على السلامة والبيئة، والتسيير المالي، في مشهد يعكس ضعف المحاسبة وتراخي الرقابة من الجهات الوصية، وعلى رأسها وزارة الطاقة وشركة سومير (SOMIR).
عقود خارج القانون وإثراء غير مشروع
يؤكد التقرير أن منح بعض عقود التنقيب والإنتاج النفطي تمّ خارج الأطر القانونية المنظمة للقطاع، في خرق صريح لمقتضيات القانون رقم 2005-024 الصادر بتاريخ 14 يوليو 2005.
فقد جرت عمليات الإسناد دون احترام مبدأ المنافسة الشفافة، وبعيدًا عن الرقابة القانونية الواجبة، الأمر الذي فتح الباب أمام الإثراء غير المشروع لبعض الجهات على حساب المال العام.
ويرى مدققو المحكمة أن هذه التجاوزات القانونية أضعفت الثقة في إدارة الثروات الوطنية، ورسخت ثقافة الإفلات من العقاب، حيث أصبح منح العقود يتم في مناخ تغيب عنه الشفافية وتُهيمن عليه المحسوبية.
رقابة غائبة ومخاطر بيئية ومالية
وسجّل التقرير انعدام المتابعة الحكومية لالتزامات الشركات العاملة في المجالين البيئي والمالي، رغم النصوص الصريحة التي تلزمها بإعداد دراسات للأثر البيئي ودفع الرسوم والإتاوات المقررة للخزينة العامة.
فالشركات، بحسب التقرير، واصلت أنشطتها دون تنفيذ خطط السلامة أو سداد الالتزامات المالية، في ظل تقصير فادح من وزارة الطاقة في المتابعة والمحاسبة.
هذه الفوضى جعلت القطاع مرتعًا للمخالفات: شركات متهربة ماليًا تحرم الخزينة من مواردها، وأخرى تلوث البيئة دون أن تتحمل كلفة المعالجة. ويخلص التقرير إلى أن تقاعس الرقابة خلق مناخًا يتجرأ فيه المخالفون على التمادي دون خوف من العقوبة.
كوادر غير مؤهلة وضعف في التأطير
لم تغفل المحكمة الجانب البشري، إذ انتقدت ضعف تأهيل الكوادر الفنية والإدارية العاملة في قطاع المحروقات والطاقة، وغياب برامج التكوين المستمر التي تواكب التطورات التقنية.
فالعديد من الموظفين يفتقرون للخبرة الكافية، ما جعل الإدارة الوصية تعتمد أحيانًا على تقارير الشركات نفسها أو على خبرات أجنبية للحكم على أعمال يفترض أن الكوادر الوطنية قادرة على تدقيقها.
وترى المحكمة أن غياب الاستثمار في العنصر البشري أدى إلى عجز رقابي خطير، وساهم في استمرار التجاوزات دون كشفها أو تصحيحها في الوقت المناسب.
سوء تسيير الحسابات الخاصة
وفي الجانب المالي، وثّقت محكمة الحسابات اختلالات خطيرة في تسيير الحسابات الخاصة المخصصة لتمويل مشاريع الطاقة ودعم المحروقات.
فقد صُرفت مبالغ ضخمة في بنود غير مبررة أو خارج الأهداف المرسومة، دون وثائق تثبت أوجه الصرف أو تسويات محاسبية دورية.
ويشير التقرير إلى أن هذا الغموض المالي فتح الباب أمام التلاعب بالمال العام، مؤكدًا أن تصحيح الوضع يمر عبر فرض شفافية مطلقة ومراجعة منتظمة لجميع الحسابات الخاصة بالقطاع.
رخص تُمنح لشركات غير مؤهلة
ومن أخطر ما كشفه التقرير منح رخص التنقيب والتوزيع لشركات لا تمتلك الأهلية القانونية أو الفنية اللازمة.
فبعض تلك الشركات حديث النشأة أو تفتقر للملاءة المالية والكفاءات التقنية، ومع ذلك حصلت على تراخيص في مجال عالي الخطورة.
ويؤكد التقرير أن معايير الأهلية تم الالتفاف عليها تحت غطاء المحاباة أو ضعف التدقيق، مما أدى إلى مشاريع متعثرة، وحوادث متكررة، وخدمات رديئة للمواطنين.
غياب التأمين والضمانات: قنابل موقوتة
ومن الثغرات الخطيرة التي أشار إليها التقرير غياب بوالص التأمين والضمانات المالية التي يفترض أن ترافق أنشطة القطاع.
فشركات عديدة تعمل دون أي تأمين فعّال ضد الحوادث البيئية أو الصناعية، فيما فشلت الوزارة في فرض هذه المتطلبات أو متابعة سريانها.
ويرى التقرير أن هذا التقصير لا يمثل خللاً إداريًا فحسب، بل خطرًا استراتيجيًا قد تتحمل الدولة تبعاته الباهظة في حال وقوع كارثة نفطية أو صناعية.
انتهاك شروط التخزين والسلامة
كما كشف التقرير عن تجاوزات جسيمة في معايير التخزين والسلامة داخل منشآت الوقود والطاقة.
فالكثير من المواقع تفتقر لتجهيزات الإطفاء وأنظمة الإنذار وخطط الطوارئ، فيما تُجرى عمليات التفتيش بشكل نادر أو شكلي.
وحذّر المدققون من أن بعض المنشآت باتت قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، مهددةً سلامة العاملين والسكان والبيئة على حد سواء.
وترى المحكمة أن تساهل الجهات الوصية مع المخالفين عمّق الأزمة وشجع على التمادي في خرق لوائح السلامة.
تضارب المصالح واستغلال النفوذ
ومن بين أكثر النقاط حساسية في التقرير، وجود تضارب مصالح صارخ داخل القطاع، حيث أُسندت إدارة بعض المحطات إلى شركات أو أفراد تربطهم صلات مباشرة بمسؤولين حكوميين.
ويشير التقرير إلى أن بعض المسؤولين المشرفين على التنظيم يمتلكون حصصًا في شركات بترولية أو محطات توزيع، ما يثير شبهات حول حياد قراراتهم.
وترى المحكمة أن هذا التضارب يقوض أسس الحوكمة ويخلط بين المصلحة العامة والخاصة، داعيةً إلى منع الجمع بين الوظيفة الرقابية والمصالح التجارية وفرض الإفصاح الإجباري عن أي تضارب.
شركات تشغيل غير مؤهلة وفوضى في إدارة المحطات
على صعيد التشغيل، رصد التقرير اعتماد محطات الوقود والطاقة على شركات خاصة غير مؤهلة فنيًا أو إداريًا، مما أدى إلى أعطال متكررة وتراجع جودة الخدمات.
كما وثّقت المحكمة تجاوزات في إدارة المخزون وعمليات الصيانة، واستخدام موارد عامة دون مبرر، ما تسبب في تعطيل المولدات وتفاقم أزمات الكهرباء والوقود.
ويؤكد التقرير أن إسناد العقود على أسس غير شفافة بدلاً من الكفاءة والخبرة، أضعف البنية التحتية للطاقة، وأهدر أموالًا كان يمكن أن تُستثمر في تطوير الخدمات.
وزارة الطاقة وشركة سومير في دائرة المسؤولية
وفي ختام التقرير، حملت محكمة الحسابات المسؤولية الكبرى لـ وزارة الطاقة وشركة سومير (SOMIR)، مؤكدة أن غياب المحاسبة وضعف الرقابة المؤسسية ساهما في استمرار نفس الاختلالات سنةً بعد أخرى.
فالوزارة لم تطبق القوانين بصرامة، ولم تبادر لمعاقبة المتورطين أو إصلاح الاختلالات في حينها، بينما غرقت سومير في سوء إدارة وغياب الشفافية أضعفا أداءها كمؤسسة وطنية استراتيجية.
ويخلص التقرير إلى أن هذه الوضعية نتاج ثقافة الإفلات من العقاب التي كرستها سنوات من الصمت الرسمي.