أخبار وتقاريركتاب ومقالاتمميز

موريتانيا بين جرح الهوية وعبث الخطاب الشرائحي

الشروق نت / إنّ الجدل الشرائحي الذي يملأ فضاءات التواصل الاجتماعي اليوم ليس سوى مرآة عاكسة لتراكمات أُهملت منذ فجر الدولة الوطنية، حين أُجّل حسم مسألة الهوية والانتماء، وتم الالتفاف على إشكاليات اللغة والثقافة، وجرى التعامل معها بالمراوغة لا بالحزم. فتولّد عن ذلك شروخ في البنية الاجتماعية، لم تزل تتسع رقعتها حتى صارت تهدد اللحمة الوطنية برمتها.

ما يُسمى اليوم صراع “البيضان” و”لحراطين” و”لكور” ليس صراعاً فكرياً رصيناً، ولا حواراً وطنياً صادقاً، وإنما هو أقرب إلى صخب غوغائي تُذكيه نوازع التعصب والجهل، وتُغذّيه عقلية الاستقطاب والاستعداء. إنه جدل عقيم، لا يزيد الأمة إلا وهناً، ولا يقدّم حلولاً، بل يضاعف التعقيد.

إنّ المظالم التاريخية ـ مهما عظمت ـ لا يجوز أن تُحمّل على كواهل أجيال لم ترتكبها، كما أنّ التغافل عنها جملةً والتذرع بالنسيان لا يمحو آثارها. سبيل الإنصاف هو الاعتراف بالجرح، ثم مداواته عبر القانون العادل والمؤسسات الرصينة، لا عبر سباب متبادل ولا خطاب إقصائي.

والأدهى أن هذه المعارك الافتراضية تُدار بأقلام “فقهاء الفيسبوك” الذين يفتقرون للمعرفة التاريخية، والرصانة العلمية، والصفة القانونية، فإذا بهم ينصبون أنفسهم قضاة على الناس، فيثيرون الضغائن ويعمّقون الشرخ بدل ردمه. المسألة أكبر من أن تُترك لهواة النقاشات المشتعلة على منصات التواصل، إنها مسؤولية نظام، ودور دولة، وواجب مؤسسات.

فإذا لم تُسَنّ القوانين الرادعة، ولم يُعاقَب كل من يثير الفتنة ويستثمر في خطاب الكراهية، سنجد أنفسنا أمام تآكل بطيء لأسس الدولة، وانقسام خطير قد يعصف بالسلم الأهلي.

ولعل أخطر ما يثير الأسى أن ترى شريحة تنغمس في ثقافة شبيهة لها خارج الوطن، وتُواليها أكثر من ولائها للأرض التي جمعتها مع شركائها في المصير، وكأن الجغرافيا التي صنعتهم شعباً واحداً لم تَعُد كافية لبعث الشعور بالانتماء.

ثمّة جانب آخر يزيد المشهد قتامة، وهو ما يقوم به بعض معارضي النظام من استغلال هذا الجدل الشرائحي لتشويه صورة البلد، بالكذب والتضليل، والتلاعب بالحقائق، لا بدافع حب الوطن ولا حرصاً على إنصاف المظلوم، بل سعياً وراء مكاسب سياسية زائلة، أو منافع مادية دنيئة، أو تنفيذاً لأجندات خارجية لا تعبأ بمصير هذه الأرض وأهلها. وذلك لون من الخيانة المقنّعة، لا يمتّ إلى المعارضة الرشيدة بصلة، بل هو طعن في خاصرة الوطن من أجل تصفية حسابات شخصية.

موريتانيا أكبر وأقدس من أن تُختزل في خطابات مسمومة أو حملات افتراء، وهي أمانة في أعناق الجميع، تقتضي أن نصونها ونذود عنها، لا أن نرسم لها صورة قاتمة بألوان من الكذب والبهتان. فالمعارضة الحقيقية هي التي تراقب وتنتقد وتُصحّح، لكنها لا تبيع وطنها في سوق المصالح الضيقة.

وإذا ما تأملنا حال دول الجوار، وجدناها أشد تعقيداً من حيث التركيبة الاجتماعية، وأغزر تنوعاً من حيث المكوّنات العرقية والثقافية، ومع ذلك فإن أبناءها ـ على تباينهم ـ لا يسمحون لأنفسهم أن يحوّلوا تباينهم إلى معول هدم للوطن. فكيف بنا نترك الحبل على الغارب لبعض الأصوات المأزومة، لتجعل من خلافاتنا الداخلية مادة للفرقة والتشويه؟

إنّ الوطنية الصادقة ليست خطاباً عاطفياً يُرفع عند الحاجة، بل هي التزام عملي بحماية النسيج الاجتماعي، وصون صورة الدولة، والعمل على تمتين وحدتها. أما العبث بالمشاعر، وافتعال الأزمات، وتسميم الرأي العام، فليس إلا سقوطاً أخلاقياً لا يليق بمن يدّعي حب هذه الأرض.

اليوم، وبعد أن بلغ السيل الزبى، لم يعد ثمة مجال للتساهل أو التهاون. المطلوب هو خطاب وطني صادق، وسياسات صارمة، وعدالة ناجزة، تعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة المتساوية. فالتحزب للون أو الشريحة أو العرق لا يورث إلا البغضاء والفرقة.

وقد رسم  الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام  قاعدة العدل الكبرى حين قال :  “ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى”.

هذا  ليس حديثا  للتزيين ولا شعاراً للاستهلاك، بل دستور جامع، لو طُبّق، لانحلت العقد وسقطت الأوهام، وأصبح الناس جميعاً سواءً أمام الحق والقانون.

#عالي أحمد سالم الملقب البو 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى