أخبار كوركولأخبار وتقاريرمميز

كيف سقطت المكونة الثانية من آفطوط الشرقي في فخ التسرع والتضليل؟

الشروق نت- فم لكليتة

في بلد تنساب تحته طبقات مائية جوفية واعدة، وتحيط به أنظمة نهرية كبرى، ما زال العطش ينهش أريافه ومدنه، ويتحول من أزمة موسمية إلى لعنة مزمنة.. ومع كل قطرة ماء مؤجلة، تتبدى هشاشة البنية التحتية، وتتعرى وعود وزارة المياه والصرف الصحي، التي لم تفلح منذ سنوات في إدارة واحدة من أكثر الملفات حساسية  “مشروع آفطوط الشرقي” ، وبالتحديد مكونته الثانية، التي تحوّلت إلى نموذج فاضح للهدر والفشل والتضليل المؤسسي.

لكن العاصمة نواكشوط نفسها، التي يُفترض أن تكون في صدارة الأولويات من حيث البنية التحتية والخدمات، لم تسلم هي الأخرى من العطش.. فقد أصبحت انقطاعات المياه عن أحياء واسعة من المدينة مادة شبه يومية على وسائل التواصل الاجتماعي، وموضوعًا للنقاش العام، وسط حالة من الغضب الشعبي والارتباك الحكومي.. من الترحيل إلى توجنين، ومن عرفات إلى دار النعيم، يعاني السكان في صمت أو في صيحات استغاثة تُقابل غالبًا بردود باردة أو إنكار رسمي.

وإذا كان هذا حال نواكشوط، فكيف سيكون وضع القرى البعيدة والمهمشة؟

في الوقت الذي تتوالى فيه خطابات الطمأنة، ينطق العطش بلسان عشرات الآلاف من المواطنين، بينما تكتفي الوزارة ببيانات إنشائية لا تقنع حتى أصحابها..

مشروع آفطوط الشرقي، الذي كان من المفترض أن يشكّل قصة نجاح وطنية، تحوّل إلى عنوان فشل صارخ..فالمكونة الأولى، التي انطلقت عام 2015، ظلّت تشتغل بثبات وفاعلية، ووفّرت الماء لعدد من مناطق كوركول ولعصابة، لكن المكونة الثانية، التي رُوّج لها على أنها توسعة نوعية في الطاقة الإنتاجية، لم تكن سوى فقاعة إعلامية.

لقد تم تدشين هذه المكونة بشكل متعجل، في مشهد أوحى بأن الوزارة في سباق مع عامل مجهول، يُرجّح أنه ليس سوى هاجس التوقيت السياسي.. ففي قرية فم لكليتة، وقفت الوزيرة لتعلن أن الطاقة اليومية للمشروع تبلغ عشرة آلاف متر مكعب، غير أن الحقائق كانت صادمة؛ إذ لم تتجاوز القدرة الحقيقية للضخ ثلاثة آلاف متر مكعب، بل إن الضخ توقّف تقريبا بعد أيام فقط ، تاركًا عشرات القرى الموعودة تترنح في عطشها الطويل.. وليس هذا فحسب، بل إن حديث الوزيرة عن تزويد أكثر من 400 قرية ليس سوى وهم كبير؛ فحتى الآن، لا تزال قرى بأكملها في بلدية فم لكليتة تنتظر ماء لم يصل، رغم أن المشروع دُشّن رسميًا. قرى مثل:  البشات الثلاث، كوب أهل جعفر، كوب أهل اليماني، كوب أهل كريد، بلل، كوب أهل أجاي، كّله، اندام ميت، أهل اعليات، بانجوك، لمتكاده، أندام أرد، أندام خاليدو، وأندام مم، لم تعرف الماء لا بشكل منتظم ولا حتى متقطع، وبعضها لم تُنجز فيه التوصيلات حتى الآن 

وقد علمت “الشروق” من مصادر محلية أيضا،  نقلًا عن مسؤول كبير في الشركة التركية المنفذة للمشروع، أن سبب هذا التأخر في إيصال المياه يعود بالدرجة الأولى إلى تعثر أشغال الشركة التي تتولى مد الأنابيب و التوصيلات  ، في حين أن مشكلة عدم انتظام المياه في القرى التي وصلت إليها الخدمة بشكل جزئي، ترجع إلى رداءة الأنابيب المستخدمة في الشبكة، وهي أنابيب رصدت الشروق تسربات منها، بل وتكسّرت في بعض المقاطع، ما أدى إلى فقدان كميات كبيرة من المياه قبل وصولها إلى الخزانات أو الصنابير.

وقد تتبعت كاميرا “الشروق” أنابيب التوصيلات في عدة مواقع ميدانية، ووثقت بوضوح مظاهر الإهمال ورداءة المواد المستعملة، في مشاهد تعكس حجم الاستهتار بالمواطنين، وتورط مكتب المراقبة في التغاضي عن هذه الخروقات، إما عن جهل أو تقاعس أو تواطؤ.

وما يزيد الصورة عبثًا، أن خزان شخلت التياب، الذي أُعلن الانتهاء من بنائه قبل أسابيع، لا يزال خارج الخدمة حتى الآن، رغم أهميته الحيوية في استقرار الضغط وتوزيع المياه.. وبهذا، يُضاف هذا الخزان إلى سلسلة من المكوّنات المعطّلة، في مشروع وُصف رسميًا بأنه “منجز تنموي استراتيجي”، بينما يراه سكان القرى المتعطشة كذبة رسمية مكتملة الأركان.

لقد دُشّنت هذه المكونة المتعثرة من مشروع آفطوط الشرقي في استعجال لافت، دون اكتمال الأشغال أو جاهزية الشبكات، وكأن الوزارة في سباق سياسي أو إعلامي لا علاقة له بالمصلحة العامة.. وهو ما تكرر في مشروع مدينة نواذيبو، الذي تنفذه شركة صينية، حيث جرى التدشين بنفس العجلة، وخلاله أعادت الوزارة التفاخر في خطابها بـ”نجاح” المكونة الثانية من آفطوط الشرقي، مكررة الرقم الدعائي الزائف: عشرة آلاف متر مكعب.

هذا الإصرار على التضليل العلني يفتح أسئلة محورية لا يمكن الالتفاف حولها:

من يبرر لهذه الشركات تعثرها؟ ولماذا لا تُراجع العقود التي منحت لها؟

وكيف تستمر الوزارة في نهج الإنكار بينما يشهد الميدان على العطش اليومي والاختلالات المتراكمة؟

وزارة المياه، بدل أن تكون أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية والحق في الماء، تحوّلت إلى عبء على تلك العدالة، وإلى عنوان لعجز لا يمكن تفسيره إلا بغياب الكفاءة، وانعدام الرؤية، والتهاون في المحاسبة.. فمظاهر الفشل لم تعد خفية، والتجاوزات لم تعد استثناء، والمواطنون لم يعودوا يثقون في أي تدشين لا يتبعه ماء فعلي، يصلهم بلا أكاذيب أو تسويف.

وفي هذا السياق، أعدت “الشروق” تحقيقًا استقصائيًا شاملًا حول المكونة الثانية من مشروع آفطوط الشرقي، وثقت خلاله عشرات الاختلالات الميدانية، وسجلت شهادات حية من سكان القرى المبرمجة ضمن هذه المرحلة، ووقفت على تجاوزات خطيرة في التنفيذ والمتابعة، ستُعرض بالتفصيل في سلسلة حلقات قادمة، لتضع الرأي العام أمام الحقيقة الكاملة، دون رتوش ولا تبريرات رسمية.

#البو 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى