أخبار وتقاريركتاب ومقالاتمميز

هوس الموريتانيين بالتصوير يكشف أزمة ضمير وغياب الخصوصية

الشـروق نت / في زمنٍ أصبحت فيه الكاميرا امتدادًا لليد، لا تفارق الجيب ولا تغيب عن المشهد، تشهد موريتانيا انفلاتًا أخلاقيًا غير مسبوق، تجسّده ممارسات تصوير عبثية، يختلط فيها الفضول بالاستعراض، وتنمحي فيها الحدود بين التوثيق والتلصص، بين الإعلام والتشهير، وبين الحق في المعرفة وواجب الستر. لقد تحوّل المجتمع، طوعًا أو جهلًا، إلى ساحة مفتوحة تُنتهك فيها الخصوصيات، وتُعرض فيها المآسي على الملأ، بلا إذن ولا اعتبار لمشاعر أصحابها.

لم يعد أحد في مأمن من عدسة متربصة؛ ضحايا حوادث السير يُصوَّرون وهم يتألمون أو يلفظون أنفاسهم الأخيرة، بينما يقف من حولهم لاهثون خلف مشهد “ساخن” أو زاوية “أقوى”، يتجاهلون أن ما يوثقونه ليس مجرد حادث عابر، بل مصيبة إنسانية تستدعي النجدة لا النشر، الرحمة لا التصوير. بل إن بعضهم يجرؤ، في قمة البلادة، على سؤال الجرحى عن “أسباب الحادث”، أو تصوير منازل أسر مفجوعة، كما لو أن المأساة يجب أن تكتمل بفيديو يُعرض ويُعلق عليه الآلاف.

ثمّ امتد هذا الهوس نحو الأعنف: تصوير مشاجرات في الشوارع، إظهار المتسولين في أوضاع مهينة، التقاط صور لرجال الأمن في لحظات توتر، بل وحتى تصوير عراة دون علمهم، وتسريب صورهم ومقاطعهم الخاصة، وأحيانًا رسائلهم الصوتية، في خرق فاضح لكل الحدود الدينية والإنسانية والقانونية. لقد تحوّلت وسائل التواصل إلى سيوف معلّقة فوق رقاب الجميع، لا تفرّق بين مذنب وبريء، بين عام وخاص، بين مشهد عام ومساحة حرمة.

أي انفلاتٍ أخلاقي هذا الذي يسمح لإنسان بأن يجعل من الآخرين مادة للفرجة، دون إذنهم أو رضاهم؟ كيف تسنّى للمجتمع أن يبلع كل هذا القبح ويهضمه على أنه “محتوى”؟ لقد غاب الوعي، وتبلّد الإحساس، وصار كل فرد معرضًا في أية لحظة لأن تتحوّل حياته، أو لحظة ضعفه، إلى مقطع ينتشر كالنار في الهشيم، يُضحك البعض، ويشوّه صورة إنسان إلى الأبد.

المأساة الأكبر أن هذه الأفعال لا تقتصر على أفرادٍ طائشين؛ إنها سلوك جماعي آخذ في التمدد، تشارك فيه كل الفئات، من المراهق الذي يبحث عن الشهرة، إلى رب الأسرة الذي “يوثق” بلا تفكير، إلى مثقفين يُعيدون النشر بدافع الفضول أو الانخراط في “الترند”. وهكذا تُنسف منظومة القيم، ويُغتال الحياء، وتُدفن الرحمة تحت أنقاض اللايكات والمشاهدات.

نحن أمام لحظة خطر، لا مبالغة في القول إنها تهدد تماسكنا الاجتماعي. حين تُنتهك الخصوصية، تُزرع بذور الخوف وانعدام الثقة بين الناس. وحين تصبح المأساة مشهدًا ترفيهيًا، يُصاب الضمير الجمعي بالتكلّس. إن ما نشهده اليوم ليس فقط اعتداءً على الأفراد، بل تقويضًا لفكرة المجتمع ذاته، الذي لا يقوم إلا على الاحترام والستر وحفظ الكرامة.

إننا بحاجة ماسة إلى قوانين صارمة تُجرّم التصوير دون إذن صريح، وتسريب المحتويات الخاصة، ونشر المشاهد المسيئة والمستفزة للمشاعر العامة. كما نحتاج إلى قضاء رقمي نزيه وشجاع، وإلى مؤسسات إعلامية ترفض لعب دور المُضخّم للانتهاكات. لكن ما نحتاج إليه أكثر هو بعث الوعي الأخلاقي في البيوت والمدارس والمنابر، ليُفهم الجميع أن ستر الناس عبادة، وأن حرمة الإنسان أعظم من حرمة الكعبة، وأن الكاميرا قد تُستخدم لبناء الحقيقة أو لهدم الأرواح.

لقد ماتت الضمائر حين صار كل شيء قابلاً للتوثيق، وكل مأساة عرضًا بصريًا، وكل شخص مشروع فضيحة. لكن الضمير لا يُدفن إلى الأبد. ما زال في هذا المجتمع ما يكفي من النبل لإحياء الوعي، شرط أن نفيق الآن… لا بعد أن نصبح جميعًا ضحايا، كلٌ في دوره، في مسرح العبث الكبير.

#البو ولد أحمد سالم 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى