موريتانيا والصين : ستة عقود من الشراكة الوفية والتنمية المشتركة

الشروق نت – نواكشوط
منذ أن مدّت موريتانيا يدها نحو الشرق في التاسع عشر من يوليو 1965، لتقيم علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، انطلقت مسيرة تعاون استثنائية لم تعرف فتورًا، بل واصلت نموها بثبات، حتى أصبحت اليوم نموذجًا يُحتذى به في علاقات التعاون جنوب–جنوب. وعلى امتداد ستة عقود، تجذّرت هذه العلاقة في مختلف المجالات، وتحوّلت إلى شراكة استراتيجية ناضجة تتأسس على الثقة والاحترام المتبادل، وتُترجم إلى منجزات واقعية تمس حياة الموريتانيين في الصحة، والبنية التحتية، والتعليم، والزراعة، والطاقة، والثقافة، والسيادة الغذائية.
في قلب المشهد التنموي، تبرز شركة CRBC الصينية (China Road and Bridge Corporation) بوصفها الفاعل الرئيسي في تشييد العديد من المعالم الحيوية في موريتانيا، بدءًا من “ميناء الصداقة” في نواكشوط الذي ارتفعت طاقته الاستيعابية من 3 إلى 6 ملايين طن سنويًا بعد التوسعة التي أنجزتها الشركة في الفترة ما بين 2008 و2014، وصولًا إلى “جسر الصداقة” المعروف شعبيًا بـ”كرفور مدريد”، الذي يمثّل اليوم عقدة مفصلية لحركة النقل في العاصمة. وقد نفّذت الشركة أيضًا أكثر من 700 كيلومتر من الطرق الوطنية، وشيّدت 7 أرصفة بحرية، مؤكدة حضورها الدائم في قلب مشروعات البنية التحتية الموريتانية.
وفي المجال الصحي، تركت الصين بصمة واضحة تمثلت في بناء “مستشفى الصداقة” بمقاطعة عرفات، وتوسعة المستشفى الوطني في نواكشوط، فضلًا عن إرسال بعثات طبية صينية بشكل دوري إلى المستشفيات الجهوية في الداخل، في مدن مثل كيفه، تجكجه، سيليبابي، وأطار، حيث أسهم الأطباء الصينيون في تعزيز التخصصات الطبية وتقديم خدمات نادرة في مناطق كانت تعاني من نقص حاد في الكوادر.
أما في القطاع البحري، فتقود شركة “بولي هونغ دونغ فيشري” (Poly Hongdong Fishery) تحولًا صناعيًا لافتًا في مدينة نواذيبو، من خلال مصانع حديثة لمعالجة وتثمين المنتجات البحرية، وخلق مئات فرص العمل للموريتانيين، مع إدخال تقنيات حديثة في الحفظ والتصدير، تعزّز موقع موريتانيا كدولة ساحلية واعدة في سلاسل التوريد الغذائية.
وفي الزراعة، كانت الصين حاضرة برؤية تنموية تستهدف الأمن الغذائي ومكافحة التصحر، وقد أسّست مركزا للإرشاد التقني الزراعي بتمويل مشترك (منحة وقرض) بلغ حوالي 400 مليون يوان، أي نحو 55 مليون دولار، على مساحة تجريبية تبلغ 50 هكتارًا. وقد مكّن هذا المركز من تدريب فنيين ومزارعين موريتانيين على استخدام نظم الري الحديثة والزراعة الذكية، وأسهم في تحسين إنتاجية المناطق الزراعية في ولايات مثل الترارزة ولبراكنه والحوضين. كما استفادت قرابة 1500 أسرة زراعية من برامج دعم لوجستي وتقني، بالتعاون مع شركاء دوليين وبتمويل جزئي من بكين.
ولم يغب البعد البيئي عن مسار التعاون، حيث دعمت الصين برامج تشجير ومكافحة زحف الرمال، خصوصًا في ولايات الجنوب والشرق، ونقلت خبراتها في استصلاح الأراضي ومراقبة التغيرات المناخية. كما ساهمت في إدخال تقنيات الطاقة النظيفة في الأرياف، بما في ذلك وحدات الطاقة الشمسية الصغيرة، لتقليل الاعتماد على المصادر التقليدية وتعزيز التكيف مع التغير المناخي.
وفي جانب التعليم، تُعد الصين وجهة دراسية متنامية للطلبة الموريتانيين، حيث تجاوز عدد الخريجين من الجامعات والمعاهد الصينية حاجز 500 طالب، في تخصصات تشمل الطب، الهندسة، تكنولوجيا المعلومات، التجارة، واللغات. كما يضطلع معهد كونفوشيوس في نواكشوط بدور مهم في تعليم اللغة الصينية ونشر الثقافة الآسيوية، ويُنظم فعاليات ثقافية مستمرة تُقرّب المسافات بين الشعبين، وتكرّس التقارب الحضاري بين ضفّتيْ الصحراء وسور الصين العظيم.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، ظلت موريتانيا حليفًا ثابتًا للصين في المحافل الدولية، مؤكدة التزامها الصريح بمبدأ “الصين الواحدة”، في حين ما فتئت بكين تعبّر عن دعمها المستمر لموريتانيا في قضايا التنمية، ومكافحة الفقر، والإصلاحات متعددة الأطراف. وقد كان التعاون الصيني حاضرًا بقوة خلال أزمة كوفيد-19، حيث قدمت الصين مساعدات طبية ولقاحات وتجهيزات وقائية، في وقتٍ كانت فيه العديد من الدول تئنّ تحت وطأة احتكار الموارد.
ومع دخول العلاقات الموريتانية الصينية عقدها السابع، تتجدد الآفاق وتتوسع الطموحات، في ظل مبادرة “الحزام والطريق”، التي تتيح فرصًا استراتيجية لتعزيز موقع موريتانيا كبوابة اقتصادية في غرب إفريقيا، ومركز لوجستي قادر على الربط بين المحيط الأطلسي والعمق الإفريقي. وتُبدي الصين استعدادها لمواكبة التحولات الرقمية في موريتانيا، وتطوير الطاقات المتجددة، ودعم الزراعة المستدامة، مما يمنح هذه العلاقة بعدًا جديدًا أكثر عمقًا وتكاملاً.
لقد أثبتت ستة عقود من التعاون الموريتاني الصيني أن الشراكة الصادقة لا تُقاس بحجم التصريحات، بل بواقع المشاريع، وبالنتائج التي تتجلى في حياة المواطن. واليوم، تقف نواكشوط وبكين على أعتاب مرحلة جديدة، تُنير طريقها ذاكرة من الوفاء المتبادل، ويغذيها طموح لا يعرف حدودًا.
عالي أحمد سالم الملقب (البو )