أخبار وتقاريرتحقيقاتمميز

التبراع: البوح الناعم بالمكنونات.. (خاص بالشـروق)

الشروق / التبراع، وهو جنس من أجناس الأدب الشعبي، فيه تحرر من قيود الوزن إلى حد ما، مع الالتزام بالصور الشاعرية والأخيلة الشعرية.

يتميز بقصره ويختص بالمرأة وهو مجالها الذي سمح لها المجتمع بأن تعبر فيه عن عواطفها اتجاه الرجل،
فالمرأة في مجتمع بدوي محافظ لم يكن يسمح لها بالقول في مجالات يحتكرها الرجل، فالثقافة العالمة كانت من اختصاص الرجل وحكرا عليه، لذلك وجدت المرأة نفسها بحاجة للتعبير، وسمح لها المجتمع بهذا الفضاء الضيق الذي من خلاله تعبر عن شجونها وعن تطلعاتها وتبث فيه عواطفها ومكنون لواعجها.
تميزت ظاهرة التبراع في المجتمع بأنها ظاهرة يكون لبوسها الكتمان؛ كتمان اسم المتحدث عنه ولذلك قلَّ أن نجد التصريح في قديم هذا اللون الأدبي كما تقول إحداهن:

البالْ اتسرّو … شَوْفتْ مجْحودُ؛ و اتظرّو

ومرد ذلك المبالغة في التكتم والتستر عليه ويكون لهذا التستر دواعي اجتماعية، لأن المرأة عار عليها أن تتغنى برجل بذاته، كما أن له موانع نفسية وهي أن كبرياء المرأة يمنعها من التغزل بشخص أيا كان ويزيد كبرياؤها إن لم يكن يبادلها نفس المشاعر أو أن يكون مرتبطا أو فضل عليها أخرى ..
مع التطور و التمدن أخذ التبراع مناحي أخرى أصبحت فيها المرأة تعبر باسمها وتذكر بشكل مباشر “المقصود”.
ظلَّ التبراع بشكل عام سواءً أكان قديما أو حديثا، يتميز بجملة من الخصائص، إذ هو يختزل المعنى في شطر، إضافة إلى قوة الوصف فيه مع العمق الدلالي للموصوف.
كما أن التبراع وإن تطور وأخذ عدة جوانب، إلا أنه ظل الجنس الأدبي المتميز بإيحاءاته ودلالاته التي توازي “طلعة” من لغن أو قصيدة شعرية.
وإذا ركزنا علي البعد الاجتماعي نجد أن عامل “السحوة” الذي يفرض قيوده، وكون المرأة محور ذلك، ناهيك عن حرج الأفعال والأقوال، أمور جعلتها تبتكر صيغة جميلة، ثم إن التبراع ربما يكون جاء كنتيجة حتمية لمنعها من التعبير وإن بشكل محدود، وكل ذلك ربما يكون مجالا لنعتها ب “متن العين” والتخلي عن العرف والتقليد الاجتماعي، ومن أجل ذلك كله أو بعضه اضطرت المرأة للتعبير عن حالات نفسية ذات صبغة حميمة، وأن تتخذ السرية والحديث وراء الستار وسيلة للترويح عن آهاتها الغرامية، وهكذا ولد فن “التبراع” الذي يشكل غرضا شعريا أنتجته المرأة الموريتانية لتعبر من خلاله عن مدى حرمانها وترسم فيه قصة غرامها الفاشلة أو تلك التي نجحت في فترة ما وتم تذكرها في فترة أخرى.
ولعل من أهم المميزات أيضا جهل مصدر التبريعة وهو ما يجعلها بوحا صادقا شفيفا لا يراد منه جزاءً ولا شكورا، بل إن صاحبتها اضطرت من فرط كبت ما في نفسها.
ويمكننا مثلا أن نلتمس الوجع في هذه التبريعة

هَجْرَكْ ذ لوان… مانساني فالعز الكان

نجد هنا إن تأملنا هذين الشطرين أن صاحبة التبريعة تحكي لنا حكاية متكاملة عن قصة حب لم تستطع نسيانها رغم الهجر، عبرت عن ذلك بإحساس يصل المتلقي ويلامس روحه.
وهو ما يجعلنا نتأمل أكثر وأكثر، ونتساءل، كيف لكلمات أن تصف لنا مايعجز الآخرون عن وصفه نثرا إلا بقصة، وعندما نعبر عنه شعرا يحتاج المعبر لقصيدة عصماء.
وإضافة إلي أن التبريعة تفتح لك بابا مثيرا للشغف والفضول.
ثم إن “الكناية” بصيغتها التقليدية فتحت له أيضا بابا مُواربا لجهل البرّاعة وحتي لمعرفة المعنى المقصود وهنا يكمن عمق هذا اللون الأدبي.
وتأتي معاني كثيرة أخرى ولعل من أهمها الشجن واللوعة، والتي تصلك بصدق قائلتها:

البال احْتَلُّو … سقْم أَدْرَس مسْتَگسي سَلُّو

تعطي هنا هذه الكلمات البسيطة لوحة متكاملة عن عمق المعنى من جهة، ومع وصف ماوصلت إليه شاعرية قائلتها تعبيرا عن استسلامها من جهة أخرى.

ما كَطّْ افّكْدي … و ازديفي يكون ابعكْدي

نجد في هذا أن التبراع يتحول أحيانا الغزل فيه إلى كبرياء أنثوي تلقائي، نتلمس من خلاله ردة الفعل الطبيعية للسلطة النفسية للمرأة ولا تخرجها من الزاوية الأخلاقية.
ومهما يكن انعكاس المعاني من حب وألم وفراق ولقاء وغزل وحتى هجاء، في التبراع، فإن صورة كبت الحب والحرمان المترجم ب “التلياع” و “الزدف” تغلب فيه وتبقى الصورة العامة لهذه اللغة الشعورية الخاصة التي تعيشها المرأة الموريتانية بشكل عام والبراعة بشكل خاص

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى