أخبار كوركولأخبار وتقاريرمميز

آفطوط الشرقي ونواذيبو ونواكشوط.. فشل المشاريع المائية بين الأرقام الوهمية والتدشينات الاستعراضية

الشروق نت – نواكشوط

في مشهد يتكرر بشكل يبعث على القلق، تكشف المرحلة الثانية من مشروع آفطوط الشرقي عن حجم الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني، وتؤكد مجددًا أن سياسة الدعاية قد طغت على منطق التخطيط والجدية في واحد من أهم القطاعات الحيوية في البلاد. ففي الرابع من يوليو 2025، أعلنت وزيرة المياه والصرف الصحي من مدينة فم كليتة انطلاق تشغيل محطة معالجة المياه المنفذة من طرف شركة تركية، بطاقة مفترضة تصل إلى عشرة آلاف متر مكعب يوميًا، يفترض أن تغذي أربعمائة تجمع سكاني. وقد رافق الإعلان خطاب متفائل زُعم فيه أن الإنتاج تضاعف ثلاث مرات في المنطقة. غير أن ما حدث فعليًا على الأرض خالف كل التوقعات، بل وكل المعايير، حيث لم يتجاوز الضخ الفعلي لحظة التدشين ثلاثة آلاف متر مكعب يوميًا، قبل أن تتوقف المحطة كليًا عن الضخ بعد أسبوع فقط، دون أن تمر بأي من الاختبارات الفنية الإلزامية التي تسبق التشغيل الفعلي، مثل شطف الأنابيب واختبارات الضغط ومراقبة الجودة والتحقق من فعالية الشبكات، بل إن المرحلة الثانية نفسها لم تشمل سوى تسعٍ وأربعين قرية، على خلاف الرقم المُعلن، وهو ما يكشف عن مبالغة متعمدة تم تسويقها على أنها إنجاز.

وفي محاولة للتنصل من الفشل، لجأت الشركة التركية المنفذة إلى اتهام شركة PISTP الوطنية، التي تولت توصيلات الشبكة، متذرعة بتأخر الأشغال ورداءة الأنابيب، غير أن هذه المزاعم سرعان ما بدت فارغة من المضمون، فحتى في حال وجود بعض التسربات أو الكسور، كان بالإمكان ضخ المياه عبر الشبكة القديمة أو استخدام الخزانات المنجزة ضمن نفس المرحلة، ما يجعل التبرير محاولة مكشوفة للتهرب من المسؤولية، خاصة في ظل الغياب التام لمكتب الرقابة الفنية المسؤول عن المتابعة، الأمر الذي يعكس تواطؤًا مريبًا وتقصيرًا إداريًا فاضحًا في مشروع كان يفترض أن يمثل نموذجًا في الإنجاز لا نموذجًا في الإخفاق.

وبعد أقل من شهر، كررت وزيرة المياه السيناريو ذاته خلال زيارة رئيس الجمهورية إلى مدينة نواذيبو، حيث أعلنت في الثامن والعشرين من يوليو 2025 عن تدشين مشروع تزويد المدينة بالمياه انطلاقًا من بولنوار، وادعت أن البنية التحتية جاهزة للاستخدام وأن الخدمة انطلقت بشكل فعلي. غير أن تحقيقات ميدانية وتقارير فنية أكدت أن الخزان تم ملؤه استثنائيًا من الحقل المائي فقط لمحاكاة انطلاقة رمزية، حيث جرى تزويد الأبراج والمحطات بطرق صورية لا علاقة لها بالتشغيل المنتظم، كما لم تجرِ اختبارات الضغط، ولا تم تنظيف الشبكات، ولا توفرت شروط السلامة اللازمة. كل شيء صُمم ليخدم لحظة التدشين، لا أكثر، في مشهد دعائي لا يحترم أبسط مقتضيات المسؤولية ولا ينسجم مع حضور رئيس الدولة في مناسبة كان يفترض أن تعكس إنجازًا حقيقيًا لا مجرد إخراج مسرحي مُضلل.

المثير للسخرية أن الوزيرة تحدثت عن تدشين محطة تحلية بطاقة خمسة آلاف متر مكعب يوميًا، بينما تشير المعطيات الموثوقة إلى أن الطاقة المنتجة فعليًا لا تتجاوز ألفًا وسبعمائة متر مكعب، وهو فارق لا يمكن تبريره إلا بوجود نية مسبقة في التهويل والتضليل. ورغم هذا الفشل، لم تتردد الوزيرة في الإعلان عن مشروع جديد، أكثر طموحًا، يتمثل في دراسة محطة تحلية بطاقة خمسين ألف متر مكعب يوميًا، أي عشرة أضعاف الطاقة الحالية التي لم تُستغل أصلًا. وهو إعلان يثير أكثر من علامة استفهام، ويؤكد أن الهدف لم يعد تلبية حاجة مدروسة، بل الاستمرار في مسلسل البحث عن تمويلات جديدة لمشاريع تُعلن قبل أن تُدرس، وتُدشن قبل أن تُنجز، وتُوظف لأغراض استعراضية على حساب واقع السكان اليومي.

ولم يتوقف التضليل عند هذا الحد، ففي محاولة أخرى للتبرير، تحدثت الوزيرة عن توقيع صفقة مباشرة مع شركة صينية بقيمة سبعة مليارات أوقية لبناء وحدة ترسيب لعلاج طمي مياه نهر السنغال، وقدمت الأمر كما لو كان استجابة لحالة طارئة تهدد الأمن المائي في العاصمة. لكن ما يغيب في الخطاب الرسمي هو أن المنشآت المشغلة لآفطوط الساحلي تعمل منذ أكثر من عشر سنوات دون أن تتأثر بشكل كبير بمستويات الطمي، التي ظلت شبه مستقرة منذ عام 2012. وبالتالي، فإن الحديث عن “مشكلة خطيرة” ظهرت فجأة في عامي 2023 و2024 لا يبدو مقنعًا، بل يُفهم منه أن هناك محاولة جديدة لتبرير نفقات ضخمة وصفقات غير شفافة، في حين أن السبب الحقيقي لانقطاع المياه المتكرر في نواكشوط يعود إلى غياب الصيانة الدورية، وسوء تسيير المضخات، وتعطل وحدات المعالجة، وتقادم شبكات التوزيع، وانهيار الخزانات في بعض الأحياء.

أما الكارثة الأكبر فهي أن مشروع آفطوط الساحلي، الذي استهلك حتى الآن ما يناهز مليارًا وأربعمائة مليون دولار، ما زال عاجزًا عن تلبية حاجة العاصمة من الماء الصالح للشرب، ومع ذلك تتوالى الصفقات والمشاريع دون حسيب ولا رقيب، وسط خشية من أن تقودنا هذه السياسات المرتجلة إلى مديونية تتجاوز الملياري دولار، دون رؤية واضحة أو نتائج ملموسة، في ظل أزمة عطش مستفحلة تزداد حدتها يومًا بعد آخر. والمؤسف أن كل ذلك يجري تحت غطاء رسمي يُقحم رئيس الجمهورية في مشاهد دعائية، ويضع مصداقية الدولة على المحك، ويخون ثقة المواطنين الذين لم يعودوا يصدقون ما يُعلن بقدر ما يتشبثون بما يعيشونه من معاناة حقيقية مع قطرة الماء.

لقد آن الأوان لوضع حد لهذا العبث، ولم يعد مقبولًا استمرار التلاعب بمقدرات الدولة وأرواح المواطنين بهذا الشكل. المطلوب اليوم هو إقالة وزيرة المياه آمال منت مولود فورًا، وفتح تحقيق فني ومالي شامل ومستقل لمحاسبة جميع الأطراف المتورطة في هذا المسلسل المأساوي، واسترجاع هيبة الدولة من خلال فرض الجدية والانضباط، وتحويل مشاريع المياه من ساحات للدعاية إلى أدوات حقيقية للتنمية والخدمة العمومية. فالماء ليس مادة للعرض السياسي ولا ورقة انتخابية عابرة، بل هو حق أساسي، وشريان حياة، يجب أن يُصان بصدق، لا أن يُغتال بالكذب.

#البو ولد أحمد سالم 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى