كوركول بين مطرقة الفقر وسندان التدخلات المرتجلة: “تآزر” تحت مجهر السكان والإعلام

الشروق نت – كيهيدي
* تقرير خاص
في ولاية كوركول، إحدى أكثر ولايات موريتانيا هشاشة وفقراً، تعلّق السكان بآمال كبيرة على تدخلات المندوبية العامة للتضامن الوطني ومكافحة الإقصاء “تآزر”، باعتبارها الذراع الحكومية المكلفة بمواجهة الفقر والتهميش، ومدّ يد العون إلى الفئات الضعيفة والمحرومة. لكن بعد سنوات من بدء تنفيذ المشاريع، تتعالى أصوات التشكيك، وتطفو على السطح تساؤلات حادة: هل نجحت “تآزر” في تحقيق أهدافها؟ وهل كانت تدخلاتها بحجم الطموحات وحجم المعاناة؟
تدخلات طموحة… وأرقام ضخمة
من الناحية الرسمية، خصصت “تآزر” ميزانية تزيد على 28 مليار أوقية قديمة لصالح ولاية كوركول، أنفقت في تنفيذ مشاريع توزعت على قطاعات التعليم، والصحة، والمياه، والكهرباء، والدعم الاجتماعي. فقد تم بناء 877 فصلًا دراسيًا، وإنشاء مستشفى جهوي ومراكز صحية، وحفر 13 بئرًا ارتوازية، وبناء 7 سدود زراعية من أبرزها سد مونكل وسد جاطل. كما استفادت 17 قرية من ربطها بالكهرباء الريفية، ووزعت مساعدات نقدية مباشرة على أكثر من 11 ألف أسرة، إلى جانب تمويل 182 مشروعًا مدرًا للدخل، ودعم العشرات من التعاونيات النسوية.
هذه الأرقام قد تبدو كبيرة ومبشرة على الورق، لكن الواقع الميداني يروي حكاية مغايرة، تكشف عن فجوة عميقة بين ما أُعلن وما تحقق فعليًا على الأرض.
هل تكفي هذه التدخلات لتغطية احتياجات أكثر من 400 ألف نسمة؟
رغم ما أنجز، يبقى السؤال الجوهري: هل ترقى هذه التدخلات إلى مستوى التحديات التنموية لولاية يبلغ عدد سكانها أكثر من 400 ألف نسمة؟
عند تحليل الأرقام، يتضح أن التحويلات النقدية لم تشمل سوى نحو 10% من سكان الولاية، في حين أن الفقر يعصف بأغلب التجمعات السكنية الريفية والحضرية، وتظل الاحتياجات الخدمية الأساسية – خاصة في قطاعات الصحة، والتعليم، والمياه – تفوق بكثير ما تم إنجازه. فـ 13 بئرًا، مثلاً، لا يمكنها بأي حال أن تلبّي حاجات قرى وبلدات تعاني من عطش مزمن. كما أن 17 قرية مكهربة لا تمثل سوى جزء ضئيل من عشرات القرى المعزولة، ناهيك عن أن العديد من المدارس التي تم بناؤها أقيمت في مناطق شبه خالية، أو تفتقر للعدد الكافي من التلاميذ لتشغيلها.
باختصار، ما تم إنجازه يُعد جزءًا محدودًا جدًا من الاحتياجات الحقيقية، ويكاد يُقارن بـ”الطلاء على جدران بالية”، دون معالجة جذرية للمشاكل البنيوية التي تعاني منها الولاية.
غياب الشفافية… وسخط في الشارع
الانتقادات الشعبية لا تتوقف عند حجم التدخل، بل تمتد إلى أسلوب التوزيع وآليات التنفيذ، حيث يشكو العديد من المواطنين من غياب الشفافية والعدالة في اختيار المستفيدين. فقد تم تسجيل عائلات غير فقيرة ضمن لوائح الدعم الاجتماعي، بينما تم تجاهل أسر فقيرة معروفة للجميع، وهو ما فُسّر على نطاق واسع بأنه نتيجة المحسوبية والوساطات السياسية.
يقول أحد النشطاء المحليين :
“بعض الأشخاص سجلوا عائلاتهم بالكامل ضمن برنامج تكافل، رغم أنهم لا يعانون من الفقر. بينما أُهملت أسر معدمة فقط لأنها لا تملك وساطة سياسية أو اجتماعية.”
هذه الممارسات أضعفت من ثقة المواطنين في البرنامج، وأفرغته – في أعين كثيرين – من مضمونه التضامني والاجتماعي الحقيقي.
مشاريع مرتجلة… وهدر متكرر للمال العام
من أبرز صور الفشل التي أصبحت حديث الأهالي والإعلام المحلي، سد مونكل الزراعي، الذي أنفقت عليه المندوبية مبالغ طائلة، وتعهّدت بإصلاحه ثلاث مرات متتالية بعد أن فشل في الصمود أمام السيول أو تقديم أي عون فعلي للمزارعين. هذا المشروع، الذي تحول إلى “رمز للهدر”، يعكس ما يصفه مراقبون بأنه تخطيط ارتجالي وتنفيذ دون دراسات فنية محكمة.
ويقول أحد الفلاحين في مونكل:
“كنا نظن أن السد سينعش الزراعة ويؤمن المياه، لكنه جرف معه أحلامنا… ومئات الملايين تبخّرت دون فائدة.”
وفي هذا السياق، تعهّد المندوب العام للتآزر، خلال زيارته الأخيرة لمقاطعة أمبود، ببناء سد تاقو تالله، في خطوة وُصفت بالواعدة، لكن أيضًا أثارت مخاوف مكرّرة بين المواطنين، الذين تساءلوا إن كان هذا المشروع سينفذ بنفس النهج الذي طُبق على سد مونكل.
“نحن لا نعارض المشاريع، ولكن نريد مشاريع مدروسة، لا مكررة ولا مهدورة”، يقول أحد سكان مقاطعةأمبود.
المواطنون في المنطقة طالبوا بأن تكون هناك رقابة فنية صارمة، ومتابعة تنفيذ حقيقية، حتى لا يتحول سد تاقو تالله إلى مجرد عنوان جديد في قائمة المشاريع المعطلة، أو “نسخة جديدة من فشل مونكل”، كما وصفه بعضهم.
مدارس دون تلاميذ… وقرى خارج الاهتمام
لم يَسلم قطاع التعليم هو الآخر من الانتقاد، حيث أُنشئت مدارس في أماكن لا تتوفر على عدد تلاميذ يكفي لافتتاح مؤسسة تعليمية، بينما تُركت مناطق أكثر اكتظاظًا دون دعم. هذا التناقض فُسر بأنه نتيجة لعلاقات سياسية تحدد مواقع المشاريع، وليس بناءً على معايير التنمية والعدالة الاجتماعية.
وتكشف مصادر ميدانية أن بعض المدارس بُنيت في قرى شبه مهجورة، فقط لأنها تنتمي لدائرة انتخابية معيّنة، في حين تواجه قرى أخرى اكتظاظًا حادًا داخل حجرات طينية متهالكة.
توصيات لإعادة الثقة وتصحيح المسار
في ظل هذه الاختلالات، يرى المراقبون أنه من الضروري:
- إعادة هيكلة آليات الاستهداف وضمان الشفافية التامة في اختيار المستفيدين.
- إجراء تقييم مستقل للمشاريع المنفذة ومدى مطابقتها للحاجات الفعلية.
- تعزيز الرقابة الميدانية عبر المجتمع المدني، والسلطات المحلية، والإعلام.
- إبعاد التدخلات السياسية والشخصية عن مسارات التنمية وتوجيه الموارد بناء على أولويات موضوعية.
بين الطموحات الكبيرة والنتائج المحدودة، تبقى تجربة “تآزر” في كوركول محلّ نقاش وجدل واسع. فما تحقق – رغم أهميته الرمزية – لا يكفي لإحداث الفرق المطلوب في حياة مئات الآلاف من المواطنين الذين ما زالوا يعانون من العزلة، والفقر، والتهميش. وإذا لم تراجع المندوبية آلياتها، وتربط تدخلاتها بخطط واقعية تستجيب لاحتياجات السكان، فإن الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي ستتسع أكثر، وتضيع فرص ثمينة لبناء تنمية عادلة وشاملة في واحدة من أكثر ولايات البلاد حاجة للتغيير.
عالي أحمد سالم الملقب البو