أخبار وتقاريرمميز

عندما تحكم الكراهية و التشهير و الإتهام فضاء موريتانيا الرقمي

الشروق نت / في غفلة من الزمن، وبينما كانت الآمال معلقة على الفضاء الرقمي كرافعة للحرية والتنمية والتقارب الاجتماعي، انقلبت منصات التواصل في موريتانيا إلى ميادين مفتوحة لتفريغ الأحقاد، وبث الكراهية، وتصفية الحسابات الشخصية والعرقية والسياسية.

فضاء افتراضي بلا قيد ولا قانون، لا مكان فيه للحق ولا للحقيقة، بل تنصب فيه “محاكم” إلكترونية يومية، يحكم فيها الجميع على الجميع؛ دون تروٍ، دون دليل، ودون اكتراث لحياة الآخرين، وكرامتهم، ومستقبلهم.

انفلات رقمي لا يرحم أحدًا

من رئيس الجمهورية، إلى أبسط مواطن في قرية نائية، مرورًا بالوزراء، الضباط، الإعلاميين، رجال الدين، الفاعلين في المجتمع المدني… الجميع هدف مشروع لسيل جارف من التدوينات، الفيديوهات، والتسريبات، التي لا تراعي خطوطًا حمراء، ولا تحفظ حرمة لمكانة أو خصوصية.

يُتهم هذا بالفساد، ويُخوَّن ذاك، ويُشهَّر بآخر، ويُختلق للناس ما لم يقولوه، وما لم يفعلوه، في مسرح يومي تعج به صفحات فيسبوك، وتيك توك، وسناب شات، وغيرها من المنصات.

فوضى المعرفة والجهل المتنكر

في هذا العالم الموازي، تحول الجميع إلى “خبراء” في كل شيء. يُفتي الناس في القانون والفقه والدين، ويحللون السياسة والاقتصاد والمجتمع، دون أدنى معرفة أو خلفية علمية.

لغة حادة، أحكام قطعية، تهكم ساخر، وعناوين صادمة.. دون رقابة 

مظاهر الإساءة الرقمية… من الاتهام إلى الابتزاز

الإساءة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في موريتانيا تجاوزت حدود المعقول:

تشهير ممنهج بشخصيات عامة وخاصة.

اتهامات بلا سند بارتكاب جرائم أخلاقية أو مالية.

تحريض عرقي وطائفي يهدد نسيج الوحدة الوطنية.

تسريبات لمحادثات خاصة وصور شخصية، غالبًا ما تُفبرك أو تُخرج من سياقها.

استخدام صفحات زائفة لجمع تبرعات احتيالية لأشخاص وهميين أو مرضى غير موجودين، ما يُعد استغلالًا خبيثًا لتعاطف الناس.

ضحايا لا يُعدّون… وصمت يقتل مرتين

رغم وجود قوانين  رادعة لهكذا ممارسات ، يواجه الضحايا عاصفة من التنمر الرقمي والتشهير، تترك آثارًا عميقة على حياتهم الشخصية والمهنية:

نساء فقدن سمعتهن الاجتماعية بسبب شائعة أو صورة مفبركة.

شباب طُردوا من وظائفهم نتيجة تدوينة عشوائية.

أسر تفككت بسبب مقاطع صوتية منسوبة زورًا.

أطفال وقُصّر وجدوا أنفسهم في قلب فضائح رقمية لا يدركون أبعادها.

غالبًا ما يعجز الضحية عن الدفاع عن نفسه، أو حتى الوصول للعدالة، في ظل بطء الإجراءات ، وصعوبة تعقب الحسابات الوهمية.

الحرية حين تتحول إلى فوضى مدمرة

تحت شعار “حرية التعبير”، أصبحت المنصات الرقمية غطاءً لممارسات تهدد كيان المجتمع نفسه.

الإلحاد يُبثّ على المباشر، والفجور يُسوّق كتحرر، وفتيات قاصرات يتنافسن في بثوث مباشرة على تيك توك دون رقابة أو وعي.

مراهقون يُقلدون محتوى هابطًا، دون رقيب من الأسرة أو المدرسة، في وقت تراجع فيه الدور التوجيهي للمؤسسات الدينية والإعلامية.

إن ما يحدث ليس مجرد “تسلية شبابية”، بل تحوّل اجتماعي خطير يُعيد تشكيل القيم والتقاليد والعقائد في مجتمع كان يُضرب به المثل في المحافظة والحياء.

ماذا فعلت الدولة؟ وأين الخلل؟

رغم أن موريتانيا سنت قوانين لتجريم الجريمة السيبرانية، وأنشأت وحدات أمنية مختصة في الجرائم الرقمية، إلا أن هذه الإجراءات، في أغلبها، لم تواكب حجم وخطورة الظاهرة ، و توسع إنتشارها..

الضوابط لا تُفعل بما يكفي، والمراقبة تظل ضعيفة، والإفلات من العقاب هو القاعدة لا الاستثناء.

من أجل إنقاذ الفضاء الرقمي… قبل أن ينفجر الواقع

لم يعد الأمر يحتمل التأجيل. موريتانيا تقف على مفترق طرق، ويجب التحرك العاجل لإنقاذ المجتمع من الانهيار القيمي الذي تقوده هذه المنصات.

الحلول المقترحة:

سنّ قوانين رادعة واضحة تُطبّق على الجميع دون انتقائية.

إطلاق حملات توعية وطنية حول مخاطر التدوين المسيء والتشهير الرقمي.

فرض رقابة جزئية على البثوث المباشرة خاصة للأطفال والمراهقين.

تمكين القضاء الرقمي ودعمه تقنيًا وبشريًا لتسريع البت في قضايا الجرائم الإلكترونية.

تفعيل دور الأسرة والمدرسة في التوجيه الرقمي السليم.

ما يجري في الفضاء الرقمي الموريتاني اليوم ليس مجرد تجاوزات فردية، بل هو ظاهرة مجتمعية آخذة في التوسع، تهدد وحدة البلاد واستقرارها الأخلاقي والنفسي.

السكوت عنها تواطؤ، والتهاون معها مشاركة غير مباشرة في صناعة مجتمع هشّ، مشوّه، يقوده الهدم بدل البناء.

الحرية الحقيقية لا تعني التشهير، ولا تُختزل في السباب، ولا تُمارس على حساب الآخرين.

إنها مسؤولية، وممارسة راشدة، تنبع من ضمير حي، لا من فوضى الحقد والابتزاز..

عالي أحمد سالم 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى