إسطنبول: في الوقت الذي يتراجع نفوذ فرنسا في إفريقيا، كثف الرئيس إيمانويل ماكرون، زياراته للدول العربية ولقاءاته بالزعماء العرب بشكل غير مسبوق عام 2022.
إذ زار ماكرون، 6 دول عربية على الأقل، واستقبل في باريس عددا من القادة العرب، كما التقى بآخرين في تجمعات دولية مختلفة، ما يعكس اهتمامه بالمنطقة العربية، التي احتضنت عدة مناسبات عالمية مثل قمة المناخ، وكأس العالم، وأعادت الحرب الروسية في أوكرانيا تسليط الضوء على حيوية الدور العربي في ضمان الأمن الطاقوي الأوروبي.
كما أن العامل الداخلي كان له أثره في تركيز بوصلة الرئيس الفرنسي نحو المنطقة العربية، فماكرون، أصبح أكثر تحررا من ضغوط اليمين المتطرف المعادي للعرب والمسلمين، بعد إعادة انتخابه لعهدة رئاسية ثانية وأخيرة، وبدعم من جناح في تيار اليمين.
إذ أن جميع هذه الزيارات المتبادلة بين ماكرون والزعماء العرب، جرت بعد فوزه بولاية رئاسية ثانية في 24 أبريل/ نيسان الماضي، فيما انشغل في الأشهر الأولى من هذا العام بحملته الانتخابية، وبالحرب الروسية الأوكرانية، التي اندلعت في 24 فبراير/ شباط الماضي.
زيارات تحت عناوين مختلفة
أولى زيارات ماكرون العربية، بعد إعادة انتخابه، بدأها من العاصمة الإماراتية أبوظبي، في 15 مايو/ أيار الماضي، لحضور جنازة رئيس البلاد خليفة بن زايد.
لكن هذه الزيارة لم تخل من “دبلوماسية الجنائز”، حيث التقى ماكرون، رئيسَ الإمارات الجديد محمد بن زايد، والذي كانت أول خرجة له، بعد تعيينه رئيسا، إلى باريس، بعد نحو شهرين من هذا اللقاء.
كما التقى ماكرون في أبوظبي، بالرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، وبحث معه الأوضاع في منطقة الساحل، التي تعد نواكشوط أحد الأعمدة لمجموعة الساحل الخمسة، التي أسستها فرنسا لمكافحة الإرهاب في المنطقة.
وأول زيارة رسمية لبلد عربي، قادت ماكرون إلى الجزائر لطيّ صفحة الخلاف الدبلوماسي و”التاريخي” والأمني والطاقوي بين البلدين، وجرت ما بين 25 و27 أغسطس/آب الماضي.
ونجحت الزيارة على الصعيد الدبلوماسي في إنهاء الجفاء بين البلدين، حيث التقى ماكرون بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وتم عقد أول اجتماع للقادة العسكريين والأمنيين في البلدين منذ استقلال الجزائر في 1962، لكنها أبقت على العديد من الملفات عالقة ومؤجلة.
وفي 6 نوفمبر/ تشرين الثاني، توجه إلى منتجع شرم الشيخ المصري، لحضور قمة المناخ “كوب27″، التي حضرها عدد كبير من زعماء العالم، بينهم قادة عرب.
والتقى ماكرون على هامش هذه الزيارة بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون.
ومن بوابة الفرانكوفونية، دخل ماكرون تونس، التي احتضنت قمتها ما بين 19 و20 نوفمبر، بجزيرة جربة، والتقى على هامشها بالرئيس التونسي قيس سعيد.
وفي ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تأهل المنتخب الفرنسي إلى النصف النهائي ثم إلى نهائي كأس العالم لكرة القدم في قطر، وكانت مناسبة للرئيس الفرنسي لزيارة الدوحة مرتين لحضور المباراتين، في 14 و18 من هذا الشهر، حيث كانت فرصة للقاء أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني.
وهذا اللقاء بين ماكرون وتميم، لم يكن الأول من نوعه هذا العام، إذ سبق للرئيس الفرنسي أن استقبل أمير قطر في باريس، نهاية مايو/ أيار الماضي.
وفي 20 ديسمبر الجاري، شارك الرئيس الفرنسي في “قمة بغداد 2″، بمنطقة البحر الميت بالأردن، بمشاركة عشر دول، وكان على رأس المشاركين العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والرئيس المصري، ورئيس الوزراء العراقي الجديد محمد شياع السوداني.
وكانت القمة مناسبة للقاء بين الملك عبد الله وماكرون، على هامش “قمة بغداد”، وبحث الطرفان “التحديات في العراق وسوريا ولبنان، بالإضافة إلى القضية الفلسطينية”.
استقبال زعماء عرب
لم تقتصر لقاءات ماكرون بالزعماء العرب على زيارتهم في بلدانهم، بل استقبل عددا منهم في بلاده.
ففي الصائفة الماضية، استقبل ماكرون في باريس عددا من الزعماء العرب على غرار ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، ورئيس الإمارات، وأمير قطر، والرئيس المصري، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس الفلسطيني محمود عباس.
كما استقبل ماكرون ولي العهد السعودي في باريس، في يوليو الماضي، والتقاه مرة أخرى على هامش قمة مجموعة العشرين بجزيرة بالي الإندونيسية منتصف نوفمبر، واتصل به هاتفيا قبيل انعقادها بفترة قصيرة.
تعويض إفريقيا بالحضور عربيا
يحاول ماكرون، تعويض فشل سياسته في إفريقيا وبالأخص في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، بتكثيف حضوره في المنطقة العربية.
ففي 2022، التقى ماكرون معظم الزعماء العرب، ولم يستثن منهم سوى قادة سوريا وليبيا والسودان والكويت وسلطنة عمان والمغرب ولبنان.
فالرئيس الفرنسي حريص على حضور مختلف المناسبات والمؤتمرات الدولية التي تعقد في المنطقة العربية، على غرار كأس العالم في قطر، رغم محاولات إثنائه عن الذهاب إليها في ظل حملة أوروبية منسقة ضدها.
إذ يحاول ماكرون أن يكون حاضرا في مختلف القضايا والأزمات العربية حتى في الدول التي لم يلتق زعماءها، على غرار ليبيا وسوريا والسودان.
وبعد أن لجأ إلى خيارات صدامية مع دول مغاربية (الجزائر والمغرب وبدرجة أقل تونس)، على خلفية الحملة الانتخابية في بلاده، أعلنت باريس إنهاء أزمة التأشيرة مع الجزائر والمغرب، في زيارة قادت كلا من وزير الداخلية الفرنسي إلى الجزائر ووزيرة الخارجية الفرنسية إلى المغرب في ديسمبر الجاري.
ومن المتوقع أن تعزز فرنسا علاقاتها مع دول الخليج والجزائر في ملف الطاقة وبالأخص الغاز لتعويض الغاز الروسي.
أما بالنسبة للمغرب، فإنه من المقرر أن يزورها الرئيس الفرنسي في الربع الأول من العام المقبل، وفق وسائل إعلام مغربية، وهو ما من شأنه طي الأزمة الصامتة بين البلدين، والتي أدت إلى تأجيل الزيارة التي كانت مقررة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ومن خلال هذا الحضور الفرنسي المكثف بالمنطقة العربية، يسعى ماكرون، لإثبات أن بلاده مازالت قوة عظمى، رغم تراجع دورها في إفريقيا، وأن بإمكانها أن تكون فاعلة في مختلف الأزمات الساخنة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
كما يحاول ماكرون قطع الطريق أمام تزايد النفوذ الروسي والصيني في منطقة قريبة جغرافيا إلى بلاده، التي تسعى أيضا لتوفير موارد الطاقة لصناعتها، والأسواق لسلعها.