أخبار وتقاريرتحقيقاتكتاب ومقالاتمميز

ما الذي يجعل مصير الدول المغاربية واحدا؟

الشروق / ربما يحدث هذا في عصر آخر: تتألم طرابلس فتفزع لها على الفور الجزائر وتفجع حالا لمصابها تونس والمغرب وموريتانيا. لكن هل ما زال ممكنا أن يحصل الآن شيء من ذلك؟ ليس سرا أن كثيرين دأبوا على سؤالي مثلما أن آخرين ما زالوا إلى الآن يسألونني: ما سر اهتمامك الشديد والمبالغ في بعض المرات بالكتابة عن شؤون جيران بلدك الأصلي، أكثر من شغفك وحرصك على أن تقدم لنا ما يجري فيه؟ ولماذا تكتب دائما وباستمرار عن قضايا الجزائر والمغرب وموريتانيا أكثر مما تكتب عن تونس؟

ثم لم لا تقول ولو كلمة واحدة عن الأحداث والتطورات الدراماتيكية التي يشهدها بلد الياسمين، منذ حدوث ما صار يسميه أنصار الرئيس سعيد بالحركة التصحيحية، أو بانقلاب الخامس والعشرين من يوليو الماضي مثلما بات يصفه خصومه؟

وجوابي الذي كنت أقوله وسأستمر في قوله هو إنني وببساطة أفعل ذلك لأنني أعتقد أن مصير الدول المغاربية الخمس متشابك وواحد، وأن لا أحد منها يملك مصيرا أو مستقبلا مستقلا ومنفردا عن الآخرين. فما يحصل في نواكشوط سيرتد حتما إلى طرابلس، وما يجري في الرباط سيؤثر عاجلا أو آجلا في تونس. وقد تسألونني هنا مجددا كيف؟ وما دليلك على ذلك؟

وأعرف أني عندما أقول ذلك، أي حينما لا أرجح كفة الشأن القطري والمحلي على ما سواها، أكون كمن يحرث في البحر، غير أني لا أقرأ الطالع، أو أعلم بالغيب، عندما أقول إن التقاطعات العرقية والدينية واللغوية والاجتماعية والاقتصادية الموجودة هناك، لا بد أن تتغلب يوما على ما يلوح الآن من تنافرات وتباعدات سياسية كبيرة وغير مسبوقة. والحاجة أو المصلحة لا الخطب والشعارات الرنانة، هي التي ستعيد الجميع إلى الجادة. فمن باستطاعته أن يجزم اليوم، وفي ظل التحولات المتسارعة، وانفتاح العالم على المجهول، أن أي قطر من الأقطار الخمسة يمكنه الاستغناء عن الباقين وشطبهم تماما من مجاله الحيوي؟ ومن بإمكانه أن يقطع بشكل تام أنه لم تعد هناك بعد التطورات والتوترات والمناخات العدائية، التي باتت تشهدها المنطقة المغاربية، خصوصا في السنوات الأخيرة، أي صلة أو علاقة على الإطلاق بين بلدانه وشعوبه وحتى بين نخبه وحكامه؟

من المؤكد أن لا أحد في تونس أو ليبيا أو الجزائر أو المغرب أو موريتانيا، ولد مغاربيا. فما تكرس في مراحل التنشئة الاجتماعية ومناهج التربية والتعليم في تلك الأقطار هو، أن لا شيء يمكن أن يعلو أو يسمو فوق ما يسمى بالانتماء الوطني. وحتى في حال ما إذا نصت بعض القوانين أو الدساتير، كالدستور التونسي، على سبيل المثال وفي فصل مستقل على أن «الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي، تعمل على تحقيق وحدته وتتخذ التدابير كافة لتجسيمها» فإنه لا يبدو أن أحدا ينزعج أو يتبرم من بقاء مثل ذلك البند الدستوري حبرا على ورق.

والمشكل هو أن الإرث الثقيل للاستعمار الفرنسي في المنطقة، ثم ما فعلته الحكومات التي قادت تلك البلدان في السنوات الأولى لاستقلالها، حين رسمت الخطوط العريضة لسياساتها المقبلة، لا يزال جاثما بقوة على صدور المغاربيين، من نواكشوط إلى بنغازي. وهذا الإرث هو الذي يجعل من تلك الحواجز والحدود المتوارثة عن الاستعمار تتحول إلى أشبه بالمقدس الذي لا يمكن لأحد أن يطاله، أو أن يفكر ولو في الاقتراب منه، فضلا عن السعي العملي لإزاحته أو تغييره. والنتيجة أن المغاربيين بقوا منكفئين على أنفسهم وراء تلك الحدود، جاهلين أو غير مدركين بشكل كاف وواسع لطباع وعادات وأفكار بعضهم بعضا، ومكتفين غالبا بما تردده المناهج الدراسية، ووسائل إعلامهم في بعض المناسبات، من أنهم يشتركون في اللغة والعرق والدين، ملغين تماما أي تفكير في أي عمل أو تحرك جماعي وموحد لتجسيم تلك الروابط، حتى لو كان ذلك على نطاق فكري أو معرفي أو أكاديمي ضيق ومحدود. ولا يتعلق الأمر هنا فقط باستسلامهم للقيود الإدارية، التي وضعتها حكوماتهم، بل بترسيخ تدريجي لعقليات انعزالية، جعلتهم يدخلون في ما يشبه القوقعات الصغيرة المتناثرة والممتدة على طول منطقتهم. وانظروا مثلا لما يقوله المغاربة والجزائريون دائما من أنهم «خاوة» وما يردده التونسيون والليبيون باستمرار من أنهم أشقاء، والكلام نفسه الذي قد يقوله الموريتانيون عن الجزائريين والجزائريون عن الموريتانيين، ثم حاولوا أن تعرفوا، ولو من خلال استطلاع أو سبر آراء سريع، إن كان هؤلاء يقبلون بأن يكون لكل واحد منهم في بلد الآخر الحق الذي له فيه وستصدمون بالنتيجة. ألم يتعرض الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي لحملة شعواء في تونس، قبل باقي الدول المغاربية، لمجرد أنه دعا في وقت ما لما سماها بالحريات الخمس، أي حرية التنقل ببطاقات الهوية والعمل، والإقامة دون ترخيص مسبق، وحرية التملك، والمشاركة في الانتخابات البلدية بين الدول المغاربية؟ لقد تقبل كثيرون حينها، وتحت تأثير الإعلام والتربية والتنشئة، التي تلقوها، تلك المبادرة بنوع من الصد والاعتراض تحت حجج واهية كتعرض الأمن القومي لبلدانهم للخطر، أو التهديد، إن تم تطبيق الفكرة، لكن على ما يؤشر ذلك؟ إنه لا يعني مطلقا أن لكل قطر مغاربي مصيره ومستقبله المنفرد، وأن التقارب المغاربي هو حلم أو وهم ساذج لا سبيل لتحقيقه، بل إن العراقيل التي تواجهه هي بالأساس عراقيل ذهنية ونفسية، قبل أي شيء آخر.

فمن السهل أن نحمل الأنظمة المسؤولية عن حالة التفرقة والانقسام، لكن الأصعب، أن نعمل ولو بأبسط الجهود على محاولة تغيير العقول والنفوس، حتى يكون كل مغاربي قادرا على النظر لا إلى ما تحت رجليه فحسب، أي إلى وطنه الأم فقط، بل إلى مجال آخر أوسع وأرحب منه وهو المغرب العربي الكبير، ومن بعده الأمة العربية والإسلامية بالطبع. ولأجل ذلك فإنه لن يكون ممكنا لمن يريد أن يفهم جيدا ما يجري في تونس أن ينظر فقط لما يستجد داخلها، بل لما يحدث على أطرافها، لأنه لا مستقبل لتونس من دون ليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا، مثلما انه لا مستقبل لأي بلد من هذه بمعزل عن الباقين.

نـزار بولحية

كاتب وصحافي من تونس

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى