تحقيق : أرض غنية وشعب فقير..كيف تدار ثروات موريتانيا؟
الشروق / موريتانيا دولة قليلة السكان هائلة الموارد، ومن بين 4 ملايين نسمة هناك 31 في المئة “فقراء” بحسب السلطات، فيما تقول تقارير أخرى أنهم 45 في المئة من السكان. التناقض صارخ بين هذا الواقع والثروات المنتجة في البلاد. فمن يتولى الإنتاج وكيف يدار؟
يكتنز باطن الأرض الموريتانية وظهرها وماؤها أنواعاً متنوعة من الثروات الطبيعية، فموريتانيا تملك ثروات معدنية كالحديد والنحاس والذهب، ولها نصيب من النفط وتنتظر طفرة غازية، وكذلك لها شواطئ غنية بالأسماك والثمار البحرية، وقسم من أرضها خصب ممتد وشاسع.
إلا أن ذلك لا ينعكس على واقع حياة الناس، حيث تصل نسبة الفقر في موريتانيا إلى 31 في المئة حسب الحكومة الموريتانية، بينما تقول إحصائيات أخرى أن النسبة هي 45 في المئة من سكان البلاد، 75 في المئة منهم من سكان الأرياف.
لمعان الذهب لا يصل الجميع
يبلغ احتياطي موريتانيا من الحديد 1.5 مليار طن، وقد بدأ استخراجه أيام الاستعمار الفرنسي، على يد شركة “ميفرما” (1952)، بشراكة بين المستعمر الفرنسي وتجار غربيين. وكانت حصة موريتانيا بعد الاستقلال 5 في المئة فقط من هذا الإنتاج، وبدأ تصدير دفعات خام الحديد إلى الخارج منذ العام 1963.
وفي عام 1974، قام المختار ولد داداه، أول رئيس للبلاد بعد الاستعمار، بتأميم الشركة، بعد نضالات خاضتها القوى الوطنية، وأصبحت تعرف بـ”الشركة الوطنية للصناعة والمناجم” (سنيم). وتملك موريتانيا اليوم 78 في المئة من رأس مال الشركة، والبنك الكويتي الصناعي 7 في المئة، بالإضافة لمساهمين آخرين.. لكن الشركة شهدت في السنوات الأخيرة تقهقراً، وأصبحت مهددة بالإفلاس ، بسبب الفساد وبسبب إنهاكها باستثمارات خارج ميدانها، ومنحها قروضاً للخواص.
أما الذهب الذي لم يبدأ استغلاله بشكل حقيقي إلا في العام 2008، كحال النحاس، فيبلغ احتياطي موريتانيا منه 25 مليون أونصة، ويصل احتياطي النحاس إلى 28 مليون طن، وهناك معادن أخرى تزخر بها موريتانيا، مثل الكوارتز، الذي يبلغ احتياطيها منه 11 مليون طن، والملح الذي يبلغ احتياطيها منه 245 مليون طن، وأما الجبس فيصل احتياطيها منه إلى 100 مليون طن .
ويستثمر في مجال المعادن ما يزيد على 82 وكيلاً ما بين أجنبي وموريتاني، هذا بالإضافة إلى فتح باب التنقيب السطحي التقليدي عن الذهب أمام المواطنين الموريتانيين في العام 2016، وهو مجال دخله آلاف الموريتانيين أملاً في تحسين ظروفهم، لكنه كان فخاً لأغلبهم وطريقاً للمعاناة. ويقول سيدي عبد الله البخاري ، وهو أحد الذين جربوا هذا المجال: “تتعدد صنوف معاناة المنقبين التقليديين، وقد ظهرت بينهم عدة أمراض، وخاصة تلك المتعلقة بسوء التغذية لأن الغذاء المتوفر في المنطقة سيء جداً. وكذلك ما يتعلق بالمناخ فالرياح هناك شديدة والغبار أشد، ويؤثر على أجهزة التنقيب ومولدات الكهرباء، والمنطقة شديدة الحرارة في الصيف وشديدة البرودة في الشتاء”.
يكلِّف الحصول على رخصة للتنقيب التقليدي السطحي خمس آلاف أوقية (الأوقية هي العملة المحلية، والدولار الواحد يساوي 356 أوقية، والحد الأدنى للأجور هو 33 ألف أوقية)، وصورة من بطاقة التعريف وصور شخصية. يقول سيدي عبد الله: “هناك من ذهب على أمل تغيير واقعه، لكنه فقد ماله ولم يجد عوضاً عنه ذهباً ورجع خائب الرجاء”. ويرى البخاري أن “المستفيد الأكبر هم أصحاب الضرائب وأصحاب الشاحنات التي تقل الناس، وأصحاب الماكينات التي تطحن الحجار، وأصحاب الحرف اليدوية كمصلحي مولدات الكهرباء ومن يحفرون الخنادق”. الطريق للوصول إلى قلب إندور (بداية فتح الحقل كان في سنة 2018)، في الشمال الموريتاني شاق جداً، الحقل هو أكبر المناطق المسموح بالتنقيب السطحي فيها، والشاحنات تقل المنقبين وتعود، لأنه ممنوع على السيارات الشخصية العادية الذهاب إلى هناك
يسرد البخاري تفاصيل تجربة التنقيب: “لا بد من طرق ملتوية لبيع ما تستخرجه من الذهب، فتسعير البنك المركزي وتعييره مجحفان، وبالتالي لا بد من اللجوء للسوق السوداء. وأشد معاناة تحدث للمنقب هي وقوع طارئ صحي لأنه يصعب نقل المريض”. ولهذا السبب وقعت حوادث وفاة عديدة بين المنقبين، علاوة على الانجرافات في تربة الخنادق التي يحفرون..
رخص التنقيب غير التقليدي (أي تلك الصناعية) تصل إلى 125 رخصة، ورخص الاستغلال تصل إلى 13 رخصة، وتشمل الحديد والذهب والنحاس والكوارتز والملح، ويشتغل فيها أكثر من 15 ألف عامل، نصفهم يعمل بشكل غير دائم.
شركة “كينروس” الكندية التي تعمل عبر ما يسمى بـ”كينروس تازيازت موريتانيا”، هي أكبر مستغل للذهب في موريتانيا، وتعطي الحكومة 4 في المئة من إنتاجها حسب عقد التقاسم. وهذه النسبة الضئيلة تغضب الموريتانيين، وسبق أن أطلقت دعوات عديدة لمراجعة الاتفاقية بمجملها، كما تتهم الشركة بتلويث البئة.
وفي العام 2017، وصل رقم الموارد المحصّلة من الذهب إلى 352 مليون دولار ، أي ما يمثل زيادة 100 مليون دولار عن سنة 2016 بفضل زيادة في الإنتاج (292.500 أونصة مقابل 229.000 أونصة سنة 2016 وذلك بسبب توسيع مجال رقعة عمل الشركة الاستخراجي وتطويرها للمناجم.
وبالنسبة للنحاس، ففي العام 2017، ارتفعت الموارد المحصلة من هذا المعدن إلى 155 مليون دولار، أما الحديد، فوصلت موارده إلى 550 مليون دولار في العام 2017. موارد النفط بلغت 68.9 مليون دولار. وتوقف استغلال حقل “شنقيط” نهائياً في آخر يوم من العام 2017 لأن إنتاجيته انخفضت. ولكن وعلى الرغم من ذلك فقد كان قرار إغلاقه صدمة للخبراء الاقتصاديين في موريتانيا، ولم تعلن عنه أيُّ تفاصيل، وتستخرج النفط شركة بتروناس الماليزية.
لموريتانيا شواطئ غنية
تحتضن الشواطئ الموريتانية (يبلغ طولها 755 كيلومتراً) ما يزيد عن 300 نوع من الأسماك، 170 منها صالحة للتسويق عالمياً لجودتها العالية. وحسب وزير الصيد والاقتصاد البحري ، فإن إيرادات صادرات البلاد من الأسماك زادت العام المنصرم عن مليار دولار أمريكي، وبلغت كمية الأسماك المصطادة 700 ألف طن، وأكد الوزير أن قطاع الصيد وفر 60 ألف فرصة عمل للموريتانيين.
ويتصدر الأوربيون من صيد الأسماك الموريتانية، يليهم اليابانيون والصينيون، فيما الصيادون الموريتانيون يعملون بوسائل بدائية، ومن دون دعم حكومي.
هناك للثورة البحرية من قبل الأساطيل الأجنبية التي وقّعت اتفاقيات مع موريتانيا، فهي تصطاد دون قيود، والاتفاقيات لا تراعي حماية البيئة، فتغرف قاع البحر، وكذلك يتضرر منها الصيادون التقليديون، ويتعرضون لأخطار السفن الكبيرة كالدهس.. ويطالب الصيادون الموريتانيون السلطات بوضع خطط تنموية لمساعدتهم وتنمية قطاعهم وتنمية السوق المحلية بدل اهتمامها بالسوق الدولية فقط، وبالأساطيل الأجنبية التي تتركها تعبث في المياه الإقليمية دون رقيب. وتمثل الثروة السمكية ثلث إجمالي ثروة البلاد.
.. وقد بدأ الاهتمام بالشواطئ الموريتانية على يد البرتغاليين سنة 1432، من خلال المستكشف Gil Eanes De Murara، وتلاهم الهولنديون ثم الفرنسيون. لكن الاستغلال الفعلي للثروة لم يبدأ إلا سنة 1890، عن طريق شركة في جزر الكناري وفيها شركاء من دول أوربية متعددة.
وأما “اتفاق باريس” الموقع بين فرنسا وإسبانيا عام 1905، فهو يؤرخ لبداية الاستغلال الفرنسي لموارد موريتانيا البحرية ، حيث تم إنشاء مدينة فرنسية في الشمال الموريتاني (Port Etienne، وهي مدينة نواذيبو حالياً) وخلال فترة وجيزة ظهرت عدة شركات فرنسية تعمل في قطاع الصيد في البلاد.
كيف تدار ثروات موريتانيا؟
موريتانيا دولة قليلة السكان (4 ملايين نسمة)، وهذا يجعل التساؤل عن مشروعاً بل ملحاً. ويؤكد موسى فال في دراسته : “يتم تقييم نوعية الحَكامة – Gouvernance – من خلال مدى نجاعة التوظيف المعتمد للموارد في هذا البلد أو ذاك. وفيما يخص موريتانيا، فإننا إذا ما قمنا بجمع رصيد مختلف أبواب الميزانية، والإيرادات من العملة الصعبة في الفترة ما بين 1 يناير 2009 و31 ديسمبر 2017 نحصل على النتيجة التالية: 3.514 مليار أوقية كواردات للميزانية، و28.535 مليار دولار من الإيرادات الخارجية. بعد الاطلاع على هذه الأرقام، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو السؤال التالي: أيٌّ منا كان يتصور أن البلد قد حصل على موارد بهذا الحجم خلال هذه الفترة؟ أما السؤال الثاني فهو :أين ذهبت هذه الموارد نظراً إلى هزال نتائجها على أرض الواقع؟ فإذا ما استثنينا الجهود المسجلة على مستوى تأمين حدودنا الخارجية وبعض المنشآت الثانوية، لا نرى الأثر الإيجابي الذي يحق لنا أن ننتظره من موارد بهذا الحجم على مستوى حياة المواطنين وعلى تنمية البلد بصورة عامة”.
ويضيف:” تعكس السياسات المالية الاستراتيجيات المطبقة في كل بلد. في موريتانيا، انتهجت السلطات العمومية منذ 2009 سياسات مالية تمنح الأولوية للبنود التالية:
1) الاستثمارات: تمثل الاستثمارات البند الأول لصرف الموارد (16 في المئة من الناتج الداخلي الخام)، وهي استثمارات ليست ذات مردودية،
2) خدمة الدين الخارجي: البند الثاني لتوظيف الموارد هو خدمة الدين الخارجي (5 في المئة من الناتج الداخلي الخام)، وهو مستوى مرتفع ناجم عن المديونية المفرطة، مما يقلص بصورة خطيرة هامش التصرف في مجال تمويل التنمية.
3) التحويلات والمنح: التي تمثل البند الثالث لصرف الموارد (3 في المئة من الناتج الداخلي الخام)، والذي تضخم خلال السنوات الماضية بفعل خلق العشرات من المؤسسات العمومية”. ويؤكد فال في دراسته:” لقد قلصت الأهمية التي حظيت بها هذه البنود الثلاثة الموارد المخصصة للمجالات الأخرى، وخاصة القطاعات الاجتماعية. في الغالب، تجعل الدول القطاعات الصحية على رأس أولوياتها. إن هذه القطاعات، المتمثلة أساساً في التعليم والصحة والوحدة الوطنية والانسجام الاجتماعي، قد أدرجت عندنا في آخر سلم الاهتمامات.”
ويقول الخبير الاقتصادي الموريتاني، محمد ولد العابد : “من الناحية النظرية، تدار الثروات الطبيعية في موريتانيا حسب ترتيبات المدونات المتعلقة بها. وتتضمن مدونة المعادن وكذلك مدونة الصيد والنصوص التطبيقية لهما المبادئ والإجراءات الكفيلة بتسيير شفاف لهاتين الثروتين، قصد ضمان مساهمتهما المثلى في العملية التنموية. وجدير بالذكر أن الدولة الموريتانية اعتمدت، سنة 2005، مبادئ مبادرة شفافية الصناعات الاستخراجية التي تقتضي التصريح بكل التدفقات المالية الناتجة عن استغلال المعادن، بما فيها الذهب والنفط والغاز. وفي سنة 2013 تم اعتماد مبادرة للشفافية في قطاع الصيد”. ويتابع ولد العابد:” المراقبون مجمعون على أن الشفافية في قطاعي الصناعات الاستخراجية والصيد البحري لا تزال ناقصة، بحيث يتم منح رخص لاستغلال هذه الموارد خارج المسارات الإجرائية المحددة. وقد لفت شركاء البلد، وخصوصاً صندوق النقد والبنك الدوليين، انتباه السلطات الموريتانية مرات عدة إلى ضرورة التقيد بالنصوص القانونية حتى تتمكن البلاد من استفادة أفضل من مواردها الطبيعية (…) لا شك أن عدم التقيّد بمبادئ الشفافية في استغلال الموارد الطبيعية وخصوصاً الذهب والثروة السمكية، يترتب عليه حيفٌ كبير وظلم للدولة التي لا تتحصل، في هذه الحالة، على كامل الحقوق المالية المترتبة على منح رخص التنقيب والاستغلال بعد ذلك. النظام الحالي بادر، فور استتباب الأمر له بعد انقلاب 2008، إلى جعل كل مراحل عقود تقاسم الإنتاج في مجال المحروقات من اختصاص السلطة التنفيذية وحدها بينما كانت السلطة التشريعية تختص بالمصادقة عليها قبل إبرامها”.
لكي يكون مصير الغاز أفضل
موريتانيا مقبلة على طفرة غازية ضخمة، حيث سيبدأ تصديره في سنتي 2021 و2022، بدءاً من غاز بئر “السلحفاة آحميم”، وهو حقل مشترك بين موريتانيا والسنغال، عبر شركتي بريتش بتروليوم وكوسموس. تقدر الشركة البريطانية احتياطيات تلك المنطقة بأكثر من 450 مليار متر مكعب، وقد تم الإعلان عن اكتشاف بئر جديدة غير بعيد من العاصمة نواكشوط، ضمن المياه الإقليمية لموريتانيا، ويزيد احتياطي هذا الحقل على 60 ترليون متر مكعب من الغاز. وهو ما جعل الكثيرين يتحدثون عن ضرورة أن لا يكون مصير الغار كمصير الثروات التي سبقته التي لم تستفد منها موريتانيا.
يقول ولد العابد:” البلد مقبل على طفرة مع بدء استغلال الموارد الغازية المعتبرة، ومن اللافت أن السلطات الموريتانية لحد الآن لم تقدم للرأي العام الوطني المعلومات الكافية حول الموضوع، خلافاً لما فعلته السلطات السنغالية التي نظمت أياماً تشاورية حول الطرق الأمثل للاستفادة من الطفرة المالية المرتقبة”.
خلاصة
التناقض بين المعطيات الرقمية المتعلقة بالثروات الطبيعية في موريتانيا، وواقع الدولة وشعبها يكشف وجود خلل في تسيير هذه الثروة، ويحتم تغيير هذا النهج بدءاً من اعتماد مقاربات مبنية على الشفافية والتشارك في التسيير الذي يقلل من فرص الفساد. وهذا لا يمكن أن يحصل في ظل منظومة متهمة بالفساد وضالعة فيه، وتتعمد غياب الشفافية في التعامل مع إدارة هذه الثروة والشأن العمومي.
ويطبع الفساد تسيير البلاد، فهي مصنفة في المركز 144 من بين 180 دولة، وحصلت على 27 نقطة من أصل 100، حسب “مؤشر مدركات الفساد” لسنة 2018، الصادر عن “منظمة الشفافية العالمية .
السفير العربي