أخبار كوركولأخبار وتقاريرمميز

كوركول : “تآزر” بين شعارات التضامن… وحقيقة التسييس والارتجال

الشروق نت (خاص)

في قلب الجنوب الموريتاني، حيث تحبس ولاية كوركول أنفاسها على أمل اختراق دائرة التهميش التاريخي، تحضر “المندوبية العامة للتضامن الوطني ومكافحة الإقصاء – تآزر” كلاعب محوري في مشهد السياسات الاجتماعية، محمّلة بوعود تقليص الفوارق وتعزيز العدالة الاجتماعية.

لكن ما يُفترض أن يكون درعًا لحماية الفئات الهشة، يكشف – في ضوء هذا التحقيق – عن معالم خلل بنيوي، يتجسد في تسييس صارخ للتدخلات، وارتجالية في الإنجاز، وغياب للرؤية الإصلاحية، ما حول الكثير من المشاريع إلى دائرة عبثية من الهدر والتكرار.

* التضامن على مقاس الولاء.. حين يصبح المنتخبون مهندسي “الفقر النبيل”

على الورق، تبدو تدخلات “تآزر” في كوركول شاملة:

تحويلات نقدية دائمة لأكثر من 11 ألف أسرة، تمويل مئات التعاونيات، دعم زراعي، بناء مدارس ومرافق مياه ..  لكن حين تنتقل الصورة من تقارير نواكشوط إلى القرى والأحياء النائية، تتغير المعالم

.. مصادر إدارية وتقنية متعددة أكدت لـ”الشروق نت” أن اختيار مواقع التدخلات لا يخضع لمعايير الفقر أو الهشاشة الفعلية، بل يُصاغ غالبًا خلف أبواب المكاتب السياسية للمنتخبين المحليين، أو بالتشاور الضيق مع شخصيات نافذة في الإدارة الجهوية.

وقد أدى هذا المنحى إلى إقصاء قرى ومجموعات سكانية تعاني من العزلة والحرمان المزمن، لصالح مناطق أكثر ارتباطًا بالشبكات الانتخابية، ما جعل المندوبية – حسب تعبير أحد المصادر – “تُعيد إنتاج التفاوت بدل معالجته”.

* زيارة المندوب .. معلومات غير دقيقة… وتجميل سطحي للمشهد

الزيارة الأخيرة التي قام بها المندوب العام للمندوبية إلى كوركول، قبل يومين، جاءت على وقع احتجاجات صامتة في عدد من القرى، وتحفظات متصاعدة من بعض الفاعلين المحليين حول غياب المردودية الحقيقية للمشاريع.

 في اجتماع كيهيدي أمس قدم  المندوب عرضا شابته “معلومات غير دقيقة”، خصوصًا ما يتعلق بنسب التغطية وعدد المستفيدين الفعليين، دون تقديم تفصيل عن طريقة اختيارهم أو مناطق تركزهم..

كما شابت الزيارة – بحسب شهادات متطابقة – ارتجالية في ترتيب المحطات، حيث تم عرض مشاريع غير مكتملة، أو متوقفة عن العمل، في محاولة لإظهار تقدم لا يعكس الواقع.

* سد مونكل الزراعي.. دورة تكرار عبثية تكشف هشاشة الرؤية

من أبرز المحطات التي توقف عندها المندوب في زيارته، سد مونكل الزراعي، الذي تولّت “تآزر” تشييده منذ ثلاث سنوات، بهدف دعم الزراعة المروية وتعزيز الأمن الغذائي في واحدة من أكثر المقاطعات خصوبة. لكن هذا المشروع – الذي كان يفترض أن يشكل طفرة تنموية – تحوّل إلى مثال صريح على غياب المعالجة الجذرية والبعد الإصلاحي.

ففي كل موسم خريف ، تجرف مياه السيول السدّ بالكامل، نتيجة غياب دراسة فنية عميقة أو مراعاة للمعايير الجيولوجية والهيدرولوجية للموقع.. وقد عاين المندوب هذه الوضعية بنفسه خلال زيارته الأخيرة، متعهّدًا بإعادة تشييده مرة أخرى.

 “نعيد البناء في نفس النقطة، بنفس الطريقة، دون أن نراجع الأسباب أو نغير المقاربة… إنه شكل من أشكال الهدر المنظّم”، يعلّق فاعل مدني من المنطقة.

هذا التكرار العبثي في الإنفاق دون تعديل في الرؤية أو المنهج، يكشف أن المعضلة ليست في نقص التمويل، بل في غياب فلسفة إصلاحية حقيقية تُقيّم، وتُصحح، وتُؤسس لتدخلات مستدامة.

السجل الاجتماعي.. أداة استهداف أم واجهة انتقائية؟

المندوبية تعتمد رسميًا على “السجل الاجتماعي” لتحديد الأسر الهشة، لكن المعطيات الميدانية تفيد بأن هذه الآلية، وإن بدت تقنية ومحايدة، أصبحت في الممارسة عرضة للتحكم والتلاعب.

 مصادر الشروق نت، تحدثت عن إدراج أسماء موظفين سابقين، وأسر ميسورة، ضمن لوائح المستفيدين، مقابل إقصاء آخرين لأسباب لا علاقة لها بمستواهم المعيشي، بل بعدم قربهم من المنتخبين أو نفوذهم الاجتماعي.

وتشير وثائق مسربة إلى وجود تداخل كبير بين المستفيدين من برامج مختلفة دون تنسيق أو تحقق متقاطع، ما يجعل عملية الاستهداف في النهاية قاصرة عن بلوغ أكثر الفئات احتياجًا.

ارتجالية التنفيذ .. من بناء المنشآت إلى تجريف الثقة

الارتباك في التنفيذ لا يقتصر على الفترات الزمنية أو ترتيب الزيارات، بل يتجلى أيضًا في طبيعة المشاريع نفسها.. من تجهيزات زراعية وصلت دون فرق تشغيلية، إلى مشاريع ري غير مدروسة، وانتهاءً بسدود تنهار مع أول مياه،  و منشآت عمومية مازالت تراوح مكانها في الأشغال منذ مدة ..كلها دلائل على أن البرمجة لا تستند إلى حاجة مجتمعية حقيقية، ولا تخضع لرقابة أو تقييم فني مستقل.

 “المشاريع تُنفذ قبل أن تُدرس، وتُعلن قبل أن تُصمَّم، ثم يُعاد بناؤها بعد كل فشل دون محاسبة أو مساءلة”، يقول أحد المتابعين الميدانيين.

من خلال التحقيق، يتضح أن نموذج “تآزر” في كوركول – رغم ما حققه من حضور على الأرض – يعاني من اختلالات جوهرية تهدد فلسفته الاجتماعية.. إذ يتحول تدريجيًا من برنامج لمحاربة الفقر، إلى بنية تمويلية مغلقة تتحكم فيها اعتبارات النفوذ والسياسة، وتفتقر إلى أدوات التقييم والإصلاح الحقيقي.

ولعل من أبرز التوصيات العاجلة التي طالب بها المواطنون في كوركول: 

1. إطلاق تدقيق فني شامل لمجمل مشاريع “تآزر” في الولاية، خصوصًا المتكررة أو المتعثرة؛

2. فصل البُعد التنفيذي عن النفوذ السياسي المحلي، عبر تفعيل لجان رقابة محلية مستقلة؛

3. نشر لوائح المستفيدين وآليات اختيارهم، وفتح مسار طعن متاح للمواطنين؛

4. توحيد البيانات الاجتماعية بين القطاعات (الصحة، التعليم، الشؤون الاجتماعية) لضمان فعالية السجل الاجتماعي؛

5. تبني رؤية إصلاحية ذات طابع استباقي بدل ترميم الأخطاء بعد وقوعها.

* التضامن حين يُختزل في الهدر

في النهاية، لا تكمن خطورة ما يجري في كوركول في ضعف النتائج فحسب، بل في ترسيخ نمط من التدخلات الموسمية والانتقائية، يعيد تدوير العجز بدل كسره، ويكرّس هشاشة اجتماعية باسم محاربتها.

وإذا ما استمرت “تآزر” على هذا النهج، فإنها ستجد نفسها عاجزة عن بناء الثقة، أو تغيير الواقع، لتظل الشعارات الكبرى طافية فوق مياه السدود المنهارة، ومعها أحلام السكان التي تجرفها السيول كل سنة.

عالي أحمد سالم الملقب (البو )

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى