أخبار كوركولأخبار وتقاريرمميز

لكصيبة… مفارقة النصر الغائب : حين يُقصى من يصنع الفوز

تحقيق خاص – الشروق نت

في الحلقة الثانية من سلسلة “كوركول بين التعدد والتوازن: مقاربات في عدالة التمثيل وشفافيته”، يحطّ “الشروق نت” رحاله في عمق الريف الكوركولي، وتحديدًا في مقاطعة لكصيبة، المقاطعة الحديثة نسبيًا، لكنها الغارقة في موروث من السياسات الإقصائية والتمثيل غير المتوازن، على الرغم من كل التحولات الاجتماعية والديمغرافية والسياسية التي طرأت على تركيبتها.

ورغم أن لكصيبة سجلت حضورًا لافتًا في محطات انتخابية حاسمة، وأسهمت بفعالية في ترسيخ دعائم النظام الحالي سياسيًا وشعبيًا، إلا أن من صنعوا ذلك النصر – أفرادًا وشخصيات وازنة من أبناء المقاطعة – لا يزالون خارج دائرة الاعتبار الرسمي، في مفارقة تُثير الكثير من التساؤلات حول منطق التمثيل، ومعايير المكافأة، وحدود الجدارة في الفضاء السياسي الموريتاني.

التمثيل الرسمي: أحادية صارخة في وجه التعدد

في قراءة أولية للواجهة الإدارية والسياسية لمقاطعة لكصيبة، يلاحظ المراقب تمركزًا واضحًا لمكون اجتماعي واحد في مفاصل القرار، يتوزع على مختلف المناصب الحيوية، من الوزارات إلى الإدارات، ومن البلديات إلى البرلمان، ومن أبرز الوجوه:

التيجاني تيام: وزير في الحكومة.

 عثمان وان : مستشار الوزير الأول

آتي عبد الوهاب: فدرالي حزب الإنصاف.

كان محمد عبد الله: نائب المقاطعة.

أبو بكر تشيمبو: عمدة بلدية لكصيبة المركزية ومدير مساعد في وزارة الصحة. إضافة إلى الإخوة المصطفى كن و عبد الوهاب كن ، الواجهة السياسية التقليدية للمقاطعة ، و المحدودة التأثير،  الذي تجلى في أول إنتخابات برلمانية وبلدية و رئاسية ، رغم ما يحظون به من إمتيازات كبرى داخل النظام .

 

هذه الأسماء، مع ما تحظى به من حضور رسمي، لم تفلح في نظر الكثير من أبناء المقاطعة في تجسيد التعدد الحقيقي أو التمثيل المتوازن للفضاء الاجتماعي، بل بدت امتدادًا لنهج قديم يُكرّس أحادية غير منسجمة مع الطبيعة السكانية المتنوعة للمنطقة.

الإقصاء الحقيقي: تمثيل أقل لا يعكس الوزن الشعبي

مقابل هذا التمثيل الذي تحتكره مكونة اجتماعية واحدة، نجد أن المكونات الأخرى، التي تمتلك وزناً شعبياً وتأثيرًا واضحًا في نتائج الانتخابات لصالح النظام ومرشحيه، تعاني من تمثيل إداري وسياسي أقل بكثير، ولا يتماشى مع واقعها الفعلي.

فإداريًا، تقتصر الواجهة على الإطار باب أحمد ولد النقرة في وزارة الزراعة، الذي بات يمثل صوت المكونة المغيبة داخل دواليب السلطة، بالإضافة إلى اثنين من المدراء في مناصب هامشية  هما:

دد ولد المين، الموظف في شركة سوملك.

محمد ولد بوب، مدير المعلوماتية في وزارة التربية وإصلاح النظام التعليمي.

أما سياسيًا، فتمثل هذه المكونات – بالرغم من وزنها الشعبي – بمنتخب وحيد هو عمدة بلدية كنكي، إلى جانب الوجيه البارز معط ولد أرحيل، الذي يمتلك عمقًا انتخابيًا كبيرًا وشكل أساسًا دائمًا في تصدر النظام في المقاطعة ، و الفاعل السياسي الكبير الشيباني ولد ميدان ..

بالرغم من هذا التمثيل المحدود، إلا أن هذه الشخصيات تعد الواجهة السياسية والإدارية الأساسية لأهم المكونات الاجتماعية في المقاطعة، وهي ملتزمة بشكل عام بخيارات النظام في الترشيح، وإن كانت تتحفظ أحيانًا على بعض الممارسات.

هذا الواقع يعكس إقصاءً حقيقيًا، لا يرتكز على المعطيات الوجودية أو الشعبية لهذه الشريحة، التي هي في الحقيقة صاحبة موازين التغيير والتأثير الحاسم في مقاطعة لكصيبة، وهو ما يفسر نوعًا من الاحتقان الاجتماعي والسياسي المتنامي.

من الظل إلى الواجهة: عمدة كنكي نموذجًا

في المقابل، وفي ظل هذا التهميش الممنهج لمكونات اجتماعية فاعلة، برزت شخصية عمدة بلدية كنكي كواجهة انتخابية وحيدة للمجموعة المغيبة، وقد جاء فوزه من الجولة الأولى، في اقتراع عكس بوضوح قوة الوزن الشعبي الذي يحمله، وتماسك الكتلة الاجتماعية والسياسية التي يقف عليها.

ورغم تواضع الوسائل، فإن العمدة لم يكن وحيدًا؛ فقد حظي بدعم سياسي واضح ومباشر من الإطار في وزارة الزراعة، باب أحمد ولد النقرة، الذي لعب دورًا محوريًا في تعبئة القواعد، وتوجيه الحملة، بنفس الحماس والمسؤولية التي دعم بها مرشحي حزب الإنصاف في بلدية لكصيبة المركزية ومنصب النائب البرلماني، حين تعثرت حظوظهم في الشوط الأول.

باب أحمد ولد النقرة.. الواجهة المغيبة لمكونٍ فاعل

الإطار باب أحمد ولد النقرة، المدير في وزارة الزراعة، يُعد اليوم الواجهة الأبرز للمكونة الاجتماعية المغيبة في التمثيل الإداري، لكنه لم يجعل من موقعه الرسمي غاية، بل وسيلة لخدمة الناس والاقتراب من همومهم، حضورًا ومبادرة.

فحين اهتزت ثقة الناخب في خيارات الحزب الحاكم، وتراجعت نسبة الإقبال، كان تدخله في بلديات لكصيبة المركزية والطلحاية حاسمًا – وهو ما وثّقته تسجيلات ميدانية بالصوت والصورة – ونال حينها إشادة علنية من إدارة حملة حزب الإنصاف، بوصفه أحد أعمدة الحملة الانتخابية التي أنقذت ما يمكن إنقاذه في الجولة الثانية.

لكن المفارقة الصارخة، كما يراها كثيرون، أن هذا الرجل – رغم دوره الحاسم، وقربه الشعبي، والتزامه السياسي – لا يزال خارج دائرة التعيينات والتمثيل الرسمي، بينما يتكرر تكريس أسماء لم تحقق أي اختراق ميداني يُذكر، وتكتفي بالحضور الموسمي في المشهد.

التهميش المستمر.. أزمة صامتة تتراكم

إن تكرار تهميش هذه الكفاءات السياسية والاجتماعية لا يعكس فقط خللاً في منظومة التقدير السياسي، بل ينذر بتحول السخط الشعبي إلى معارضة فعلية، أو عزوف جماهيري واسع، كما كاد أن يحدث في انتخابات 2023، حين فشل حزب الإنصاف في الشوط الأول في عدد من البلديات، وتقلصت الحماسة بشكل لافت.

وتتجلى المفارقة بشكل أوضح حين نُدقق في التوزيع الديمغرافي للمكونة المغيبة، التي تتواجد بكثافة مؤثرة في البلديات الأربع للمقاطعة: في “بتنكل”، “لكصيبة”، و”كنكي” تُشكّل هذه الشريحة ثِقلًا انتخابيًا نوعيًا قادرًا على تغيير المعادلات برمتها، فيما تحضر كذلك في بلدية “الطلحاية” بفاعلية معتبرة، وإن كانت بدرجة أقل.

ويمثل هذا الحضور الشعبي الموزع والمترابط عنصرًا استراتيجيًا لا يمكن تجاوزه في أي قراءة واقعية للميزان السياسي في لكصيبة ، وهو ما تعكسه الأدوار الميدانية التي يضطلع بها فاعلون سياسيون من هذه الشريحة ، الملتزمة بخيارات النظام، رغم شعورها و قواعدها الشعبية بالإقصاء وعدم الاعتراف.

وقد طفا هذا الغضب على السطح مؤخرًا، من خلال نقاشات حادة في مجموعات التواصل الخاصة بالمقاطعة، اتهمت بعض رموز النظام في المقاطعة – وفي مقدمتهم الوزير تيجاني تيام – بـ”اللامبالاة”، والسعي لتكريس تمثيل ضيق لا يعبر عن الغالبية ولا يقدر جهود الشركاء الحقيقيين.

لكصيبة.. بين التعدد المغيب والتوازن المأمول

لقد أثبتت الوقائع أن الولاء لا يُشترى بالرمزية، ولا يُصان بالإقصاء، وأن من يقفون مع الناس ويعملون معهم، أولى بالتمثيل من أولئك الذين يغلقون أبوابهم إلا في مواسم الاقتراع.

كما أن تجاهل الكفاءات المؤثرة، والتقليل من شأن القوى الاجتماعية التي تُثبت حضورها عند كل مفترق انتخابي، هو مسار قصير النظر، لا يراعي شروط التماسك الأهلي، ولا مقتضيات العدالة السياسية.

إن مقاطعة لكصيبة، مثلها مثل باقي مناطق ولاية كوركول، تستحق مقاربة جديدة للتمثيل، تؤسس لشراكة شاملة، وتُنهي منطق الاحتكار، وتمنح الأولوية لمن يصنعون الفارق فعليًا، لا من يستنزفون الرصيد الشعبي بلا عائد ملموس.

الجدارة وحدها لا تكفي

في نهاية المطاف، تطرح لكصيبة سؤالاً سياسيًا عميقًا: لماذا يُقصى من يصنع النصر؟ ولماذا يظل من يتقدم في الميدان متأخرًا في التعيينات؟

هي أسئلة لا تبحث عن مجاملة، بل عن اعتراف مستحق، وتصحيح مسار تأخر كثيرًا.

 

البو ولد أحمد سالم

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى