كيهيدي بين إرث التوازن وشبح الإقصاء : هل تنقلب عاصمة كوركول على ذاتها؟

تحقيق خاص – الشروق نت
في إطار سعيه إلى تسليط الضوء على مكامن الخلل في المنظومة السياسية والإدارية لولاية كوركول، يطلق موقع الشروق نت، المتخصص في متابعة قضايا هذه الولاية ذات الثقل السكاني والرمزية الوطنية، سلسلة تحقيقات وتحليلات معمقة تحت عنوان:
“ولاية كوركول بين التعدد والتوازن: مقاربات في عدالة التمثيل وشفافيته..
وتبدأ هذه السلسلة من قلب الولاية، من حيث تتجمع تفاصيل الصورة وتتشكل مفارقات الواقع، من عاصمتها مقاطعة كيهيدي، حيث تتقاطع خيوط السلطة، والانتماء، والمصالح، لتنتج واقعاً مركباً من التعدد الظاهري، والإقصاء المستتر، والشراكة التي يتهددها الاحتكار.
إرهاصات التعدد وبوادر التوازن: تجربة 2018
شهدت انتخابات 2018 البرلمانية لحظة مفصلية في المسار السياسي للمقاطعة، حين فازت سيدة من إحدى المكونات الاجتماعية الأساسية بمقعد نيابي، ضمن لائحة الحزب الحاكم، في سابقة أثلجت صدور كُثر، ورآها البعض تتويجاً لمسار وطني تشاركي قائم على الكفاءة والانفتاح. وقد مثل النائبان الفائزان حينها مكونتين اجتماعيتين مختلفتين، مما عزّز فكرة أن كيهيدي قادرة على إنتاج نموذج وطني في تقاسم السلطة والتمثيل.
كانت تلك التجربة مؤشراً على نضج سياسي واجتماعي، وعلى رغبة حقيقية من مختلف الأطراف في تقاسم الفضاء العمومي بعدالة ومسؤولية.
انتخابات 2023: حين ينتكس التوازن
غير أن الرياح السياسية في استحقاقات 2023 جرت بما لا تشتهي سفن التعدد، حيث تم تأخير ترتيب النائبة السابقة – التي تنتمي لمكونة اجتماعية فاعلة – ضمن اللائحة الانتخابية للحزب الحاكم، مما أثار موجة من الامتعاض في أوساط ناخبين كانوا يُعوّلون على استمرار نهج التوازن الذي بشرت به دورة 2018.
وقد اعتبر كثير من الناخبين أن إقصاء هذه السيدة، أو بالأحرى تهميشها داخل اللائحة، كان رسالة سلبية، عكست ميلاً متصاعداً نحو تغليب مكون اجتماعي واحد على حساب الآخرين، فكانت النتيجة أن خسر الحزب زخمه الشعبي وفاز بشق الأنفس، بعد أن بدا واضحاً أن فئات واسعة صوتت بفتور، أو امتنعت عن التصويت تعبيراً عن استيائها.
احتكار متمرس.. يتجدد منذ عقود
وإذا كانت الانتخابات قد كشفت جزئياً خلل التوازن، فإن الوجه الإداري للمقاطعة أكثر وضوحاً في هذا الصدد. فمنذ عقود، تحتكر مكونة اجتماعية واحدة الواجهة الحكومية في كيهيدي، من وزراء سابقين وحاليين، إلى أمناء عامين، ومديرين مركزيين ومحليين، في استمرار بنيوي لطريقة توزيع المناصب لا تنسجم مع طبيعة المقاطعة متعددة المكونات.
والمفارقة أن بعض من لم يُعيَّن أو يُرشَّح من هذا المكون داخل الحزب الحاكم، سرعان ما يلجأ إلى الترشح عبر أحزاب سياسية أخرى، في مشهد يراه متابعون بأنه “محاولة مكشوفة لاحتكار التمثيل تحت أي غطاء كان، مع توجيه رسائل مغلوطة للنظام على أنهم الكتلة الأكبر، والأكثر تمثيلاً”.
لكن الحقيقة على الأرض تُكذّب هذا التصور؛ فمكونات اجتماعية أخرى نجحت في إيصال مرشحين إلى مناصب انتخابية – بل ومواجهات انتخابية حاسمة – ضد النظام ومرشحيه، ما يؤكد أن أغلبية هذا المكون المفترض ليست سوى “صناعة انتخابية انتقائية”، تُكرّس الإقصاء وتُقصي الكفاءة والتنوع باسم الهيمنة والمكانة التقليدية.
المفارقة الصارخة: من صاغ النصر.. خارج الحسابات
يرى مراقبون محليون أن من صاغوا النصر التاريخي للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في رئاسيات 2019، هم في الغالب شخصيات من المكونات المغيبة اليوم عن الواجهة، وأنه رغم تفانيهم في الحملة الانتخابية، لم يُمنحوا موطئ قدم في مواقع القرار، بينما جرى تثبيت شخصيات لم تحقق أي اختراق انتخابي ملموس، وبعضهم كانت مكاتب التصويت المحسوبة عليه من الأضعف أداءً.
وهنا يطرح سؤال نفسه بإلحاح: لماذا يُقصى من ينجح، ويُكافأ من يفشل؟ أليس هذا كفيلًا بتقويض منطق الجدارة، وقتل الحماسة السياسية لدى من يرون في الدولة ملاذاً للعدالة لا مجرد آلية ترضية اجتماعية؟
كيهيدي.. إلى أين؟
إن الصورة الراهنة في كيهيدي تُنذر بتفاقم الشرخ الاجتماعي، إن لم يتم تدارك الأمر بمنظور وطني جامع. فمن غير المنطقي أن تظل الواجهة السياسية والإدارية حكراً على مكون اجتماعي واحد، في مقاطعة يُفترض أن تكون عنواناً للتنوع، ونموذجاً للتعدد الخلاق.
لقد حان الوقت لمراجعة شاملة لآليات التعيين والتمثيل، ووضع معايير موضوعية قائمة على الكفاءة والانتماء الوطني، لا على الحظوة الاجتماعية أو الصوت المرتفع. فلا بناء سياسياً مستداماً دون عدالة، ولا ولاء حقيقياً دون إنصاف.
البو ولد أحمد سالم
—
في الحلقة القادمة: ننتقل إلى مقاطعة لكصيبة، حيث تتكشف ملامح أخرى من سياسات التعيين والتهميش، ونقرأ في تفاصيل التوازن الممكن والتمثيل المنشود في قلب الريف الكوركولي.