نحن والخروج عن الموضوع/ محمدفال سيدي ميلة
الشروق/ لنا مع الخروج عن الموضوع تاريخ طويل حافل. ربما لأن المخيال اللغوي الحساني صور “الموضوع” على أنه كل وضيع سافل ساقط، لذا يتوجب هجره في أسرع وقت.
عندما وجه أحد نواب الضفة سؤالا شفهيا لوزيرة الزراعة حول أسباب تأخر استعادة المسفرين الزنوج لأراضيهم، قالت بأن آلاف الهكتارات تم استصلاحها، وأن عمليات الري باتت جاهزة، وأن تكاليف الأسمدة زادت على المليار. ذكرتني السيدة بتقارير “ناشيونال جيوكرافي” حول عالم الحيوانات عندما يحس المستمع بأن ضعف الترجمة جعل الجُمل في تنافر والمعاني في شقاق: “الأخطبوط واحد من أشرس الحيوانات المفترسة، وأنثى الأخطبوط هذه ستضع بيضها قريبا”!!.. جملتان لا صلة بينهما غير واو زائغة، منحرفة، مكلومة ومظلومة مثل بطاقة التصويت في صندوق اقتراع بقرية زعيم قبلي.. نعم، “تأخرت استعادة المسفرين لأراضيهم وآلاف الهكتارات تم استصلاحها، والأخطبوط شرس جدا وأنثى الأخطبوط ستضع بيضها قريبا”!. إذن فـُكّ لغز مثلث برمودا وحُلت إشكالية ثقب الأوزون..
حتى المسميات، المسكينة، تخرج عن مواضيع وظائفها بالسرعة المطلوبة فينا. فوزارة الاقتصاد لم تكن، ولم تعد غير وزارة لتكديس الضرائب. أجدى لاسمها، إذن، أن يكون “وزارة الجمع والالتقاط”، ووزارة التوجيه الاسلامي لم تكن، ولم تعد غير وزارة لتكديس تذاكر الحج. كان أجدى لاسمها أن يكون “وزارة فقه التذاكر الموسمية”، إلى آخر قائمة الوزارات والمصالح الخارجة عن الموضوع. لكننا نتفهم الأمر، مكرهين، لأن الخروج عن الموضوع جزء من البنية العقلية لأبناء “المنكب البرزخي” السائب. إنه السمة الأبرز في تاريخنا لأنه جزء لا يتجزأ من عقليتنا ووجداننا وجوهرنا الجمعي. فهل كان تشريعنا لملك إخوتنا في الدين وفي الماهية البشرية غير خروج عن الموضوع؟ وهل كانت حرب الصحراء غير خروج عن الموضوع؟ وهل كان ترحيل موريتانيا لزنوجها، ردا على ترحيل السينغال لموريتانيين، غير خروج عن الموضوع؟ وهل كانت “أم التونسي” غير خروج عن الموضوع؟ وهل كان وجود مجلس الشيوخ، أصلا، غير خروج عن الموضوع؟ وهل كانت البلديات الريفية غير خروج عن الموضوع؟ وهل كانت المدارس الحرة غير خروج عن الموضوع؟…
لا شك أن “الديمقراطية”، منذ التسعينات، هي أكبر المواضيع السياسية في “بلاد ديلول”: مضرب المثل في العقل دون أن يكون قد خلف أي شيء يذكـّر بالعقل أو يحيل إليه!!. لكنه يظل، على أية حال، رمزا “مقدسا” لمستوانا العقلي ومرجعية تاريخية لتراثنا “العاقل”. ذلك، ربما، ما يفسر توقف نشاط عقلنا المعطوب العاطل الخامل. لا يهم، فالديمقراطية تبقى موضوعنا الأساسي لذلك نخرج عنها بسرعة كما نفرُّ من/ وعن كل “موضوع” بسرعة. الموالاة، بتفانيها في الخروج عن موضوع الديمقراطية، تسعى جاهدة لتكريس سلطة الفرد: أكبر معوقات الديمقراطية. والمعارضة، بتفانيها في البلادة، تفشل في فهم العلاقة بين موضوع الديمقراطية وخلق الانسان الواعي الناضج القابل لانتزاع حقه الديمقراطي، لذلك تخرج عن الموضوع فتبالغ في البحث عن أصوات متخلفة غير ناضجة لا تعي ذاتها ولا أهدافها، بدلا من التعبئة على خلق الإنسان القادر على التمسك بحقه الديمقراطي. إنه الفشل الذريع في فهم مسار الوعي الديمقراطي. لقد افتقرتْ إلى أبسط ذرة من ذكاء تمكنها من أن تستوعب أن “الديمقراطية تـُستحق” كما قال الفقيد الموريتانيدي حبيب ولد محفوظ، فكلما نضج شعب، استحق من الديمقراطية مقدار نضجه، فيأتيه رزقه منها رغدا.
إن علينا، قبل الخبز، وقبل تفاصيل ما جاء في الموجز، وقبل المجالس الجهوية، وقبل ابتلاع هزائم المنتخبات العربية، أن نخرج في مسيرات حاشدة تطالب بالتقيّد بالموضوع وإصلاح الاختلالات التاريخية الكثيرة الناتجة عن الخروج عنه