الاتحاد المغاربي: هل من استفاقة ؟
حلت علينا هذه الأيام ذكرى من أعز ذكريات الشعوب المغاربية وهي ذكرى تأسيس الاتحاد المغاربي في أواخر الثمانينات وهو في حالة “سبات” منذ أكثر من عشرين سنة بل وكأنه في حالة “موت سريري” لأسباب خفية ومعلنة معروفة وغير معروفة ولكنها خارجة عن نطاقه ككيان مؤسساتي وتتعلق أساسا بمنسوب الإرادة السياسية التي تحدو أنظمة الدول الأعضاء في تجسيده وتفعيل آلياته , وذلك بعد زخم النشاط الذي عرفه خلال السنوات الخمس الأولى من إحداثه.
ولم تفلح رياح التغيير السياسي التي هبت على المنطقة خلال السنوات الأخيرة في ظل ما عرف “بالربيع العربي” في إيقاظه من غيبوبته.وترجع بنا هذه الذكرى في كل مرة إلى أصول هذا المشروع الاستراتيجي التي لم تكن غائبة على مخيال الشعوب والمناضلين والزعماء في بلاد المغرب العربي فكانوا ينسقون فيما بينهم وهم في خضم المقاومة ضد الاستعمار وكانوا يطمحون إلى الوحدة المغاربية.
وكان مؤتمر طانجة المنعقد في سنة 1958 اللبنة التاريخية للعمل المغاربي المشترك ولم تكن البلدان المغاربية كلها قد نالت استقلالها واستعادت سيادتها كاملة. وبعد السنوات الأولى من الاستقلال التي أعطيت فيها الأولوية لترسيخ السيادة وبناء مؤسسات الدولة الوطنية، شرع منذ سنة 1964 في إقامة جسور التعاون المغاربي المتكامل ولم يكن الطموح غائبا فتواترت الاجتماعات الوزارية وندوات الخبراء وتم بعث “اللجنة القارة للتعاون المغاربي” التي اشتغلت لسنين تحت إدارة مندوب تونس الأستاذ مصطفى الفيلالي وأنجزت العديد من الدراسات ومن مشاريع الاتفاقيات ذات البعد الاندماجي، ولكن عملها جوبه بالواقع الجيوسياسي والاقتصادي الذي كان سائدا في المنطقة وبالخلفيات التي كانت تسود العلاقات بين الدول الأعضاء .ولعل ملف الصحراء الغربية قد ألقى بثقله لتعطيل المشروع المغاربي إلى جانب الانشغال بالبناء الداخلي، فكان تجميد اللجنة القارة وتعطيل المسار حتى أواخر الثمانينات إلى أن جاءت المحاولة الجادة لإحياء فكرة الوحدة المغاربية من خلال قمة زيرالدا بالجزائر (جوان 1988 ) التي أعطت إشارة الانطلاق لاستئناف العمل المغاربي المشترك ضمن الاتحاد المغاربي الذي تم تأسيسه رسميا في قمة مراكش بالمغرب ( فيفري 1989).
أكتب هذه الأسطر القليلة لأني من المهتمين والمتابعين لملف العلاقات المغاربية منذ أن كنت طالبا بالمدرسة الوطنية للإدارة وتم اختياري مع زميل آخر لإجراء تربص دبلوماسي بالأمانة العامة للأمم المتحدة ضمن البعثة القارة لديها وكان يديرها السفير المرحوم رشيد إدريس. ومن الصدف أن كان ملف الصحراء الغربية من أهم النقاط المدرجة في جدول أعمال الجمعية العامة لدورة خريف 1975 الذي كان يرأسها وزير خارجية الجزائر آنذاك السيد عبد العزيز بوتفليقة , فاخترت الملف على حساسيته كموضوع لتقرير ختم التربص في علاقة برأي محكمة العدل الدولية بلاهاي حول نزاع الصحراء الغربية الذي لم يكن باتا في حسم الخلاف , وواصلت الاهتمام بملف العلاقات المغاربية أثناء مسيرتي المهنية بوزارة الاقتصاد الوطني من خلال تكليفي بملفات التعاون الدولي ومن ضمنها التعاون المغاربي بمتابعة أنشطة اللجنة القارة للتعاون المغاربي ثم أنشطة الاتحاد المغاربي في سنواته الأولى في المجال الاقتصادي والتجاري قبل أن أدعى إلى مهام دبلوماسية خارج الوطن في نهاية سنة 1994, ومن ذكريات تعاملي مع الملف المغاربي في تلك الفترة مشاركتي في رحلة بحرية مغاربية بعد أشهر من قمة مراكش ببادرة من جلالة الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه الذي سخر باخرة ملكية لتأمين الرحلة من وإلى طانجا وصولا إلى كل العواصم المغاربية. وضمت الرحلة ممثلين عن الدول الخمسة الأعضاء في الاتحاد تحت شعار “مغرب بلا حدود” وبدون الاستظهار بجوازات السفر في المواني التي مرت بها الرحلة , وفي ندوة فكرية حول آفاق التعاون المغاربي في ظل المولود الجديد ساهمت بمداخلة قصيرة ناديت فيها بإعداد دراسة لتقييم كلفة “اللامغرب” من الناحية الاقتصادية فنال المقترح ترحيب الحاضرين وتم تبنيه ضمن توصيات الندوة , وفي طرابلس عبر العقيد معمر القذافي رحمه الله عند استقباله لوفد من المشاركين في الرحلة ( وكنت ضمنه ) عن حسرته لعدم صدور تلك المبادرة عنه عوضا عن جلالة الملك الحسن الثاني ووعد “مازحا” بتنظيم رحلة مماثلة على ظهور الإبل عبر الصحراء من طرابلس إلى نواق الشط (ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه).
لقد كان تأسيس الاتحاد بمثابة تكريس للتضامن المغاربي كخيار استراتيجي يوفر للدول الأعضاء مساحات كبيرة من التعاون والتنسيق والاندماج بما يؤمن لشعوب المنطقة من أسباب التكافل والأمن والاستقرار والطوق نحو الأفضل في إطار تكتل اقتصادي إقليمي تعمل مؤسساته على تنسيق السياسات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية والثقافية وتنظيم حرية تنقل الأشخاص ورؤوس الأموال بما يحقق الاندماج في إطار سوق مغاربية موحدة يدعمها اتحاد جمركي ويتعامل بتكافؤ وبقدرة تفاوضية قوية مع التكتلات الاقتصادية الأخرى , وقد عمل الاتحاد خلال السنوات الأولى من ممارسة نشاطه على تكثيف الاجتماعات والندوات على مستوى القمة وعلى المستوى الوزاري وعلى مستوى كبار الموظفين والخبراء وأعد العديد من الدراسات والاتفاقيات المغاربية التي تغطي مختلف المجالات وواصل عمله بإعداد مشاريع البروتوكولات المرفقة بالاتفاقية الإطارية للتبادل الحر والتي تتعلق بقواعد التقييم الجمركي وبنظام تسوية النزاعات وبنظام قواعد المنشأ وبإطار حرية تنقل الأشخاص ورؤوس الأموال والسلع والخدمات بين الدول الأعضاء. والحسرة كل الحسرة أن تبقى هذه الأعمال على رفوف المكاتب بدون تفعيل ولا متابعة على مدى كل هذه السنين، بينما تشير التقديرات إلى أن كلفة “اللامغرب” تناهز خسارة على مستوى التنمية بما بين 2 إلى 4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة. ولا تتعدى قيمة المبادلات التجارية المغاربية نسبة 3 بالمائة من حجم التجارة الخارجية لبلدان المنطقة .ولا أدري ما إذا انكبت القيادات المغاربية على تداعيات “اللامغرب” على المستويات الجيوسياسية والاقتصادية والمعرفية للوقوف على المكانة التي يمكن أن يكون عليها الفضاء المغاربي الموحد في علاقاته مع محيطه الإفريقي والأوروبي وحتى الآسيوي.
وإذ لم تعر الدول المغاربية العناية اللازمة لبعدها الإفريقي وما يحتويه من زخم الفرص في علاقاتها الخارجية باستثناء المغرب على الرغم من خروجه من الاتحاد الإفريقي لأسباب خارجة عن نطاقه , ولم تكن لها الجرأة الكافية للتوغل في المنطقة الآسيوية التي تمثل قطب المستقبل في العالم , فإن الاتحاد الأوروبي يتقدم اليوم للدول المغاربية بنمط جديد من اتفاقيات التبادل الحر والعلاقات “المعمقة” أو “المميزة” للتفاوض في شأنها مع كل دولة على حده بصورة غير متكافئة وبشروط غير متوازنة وبدون دعم كاف لتأهيل الاقتصاديات المغاربية وفي غياب أي تنسيق بين الدول المعنية المنتمية نظريا إلى تكتل اقتصادي قائم على الورق ولا بد له من أن يستفيق من خموده عاجلا أو آجلا , ألهذه الدرجة بلغت “أزمة الثقة” بين الأنظمة المغاربية؟
نعم تحل علينا الذكرى السابعة والعشرون لتأسيس الاتحاد وهو في حالة جمود كلي ولكن الأمل في إحيائه من جديد يبقى قائما في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها المنطقة امتدادا لما يعيشه المشرق العربي من تطورات جيوسياسية خطيرة على مدى السنين الأخيرة وما أنتجته الحرب المدمرة التي فرضت عليه من إفرازات للحركات الدينية المتشددة وللجماعات الإرهابية وآخرها ما يسمى “داعش” , وقد أصبحت تمثل خطرا كبيرا يهدد المنطقة بعد التمدد والاستقرار في بعض المناطق الليبية ومنطقة الساحل الصحراوي المتاخمة للفضاء المغاربي. ولا شك في أن التحديات الخطيرة التي أصبحت تهدد المنطقة في أمنها واستقرارها من جراء تفاقم ظاهرة الإرهاب والجريمة المنظمة بتنامي التهريب وانتشار السلاح وتجارة المخدرات لا يمكن لأي دولة منفردة أن تواجهها بنجاح نظرا للصبغة الإقليمية والدولية لهذه الظواهر،الأمر الذي يستوجب معه المبادرة برفع “التجميد” على الاتحاد واستئناف العمل المغاربي المشترك على كل الصعد بمحاولة تحييد بعض الملفات المستعصية وتغليب المصلحة الجماعية المغاربية بما يدفع بالمشروع المغاربي نحو التجسيد والتفعيل لتأمين القدرة التضامنية على المعالجة الناجعة للإشكالات المطروحة.
فهل من استفاقة لتفعيل الإرادة السياسية للأنظمة السياسية المغاربية كما تستشف من مضمون برقيات التهاني المتبادلة بمناسبة الذكرى وقد عبرت عن الاستعداد لمواصلة العمل المشترك من أجل دعم المشروع التاريخي كإطار ملائم للتعاون والتنسيق والاندماج من خلال التسريع في تحديث هياكل الاتحاد وتحيين برنامج عمله على أساس مقاربة شاملة على نفس روح التضامن والتفاؤل التي سادت في قمة مراكش ( مقتبس من إحدى البرقيات ) , المسؤولية والمبادرة تعود بالطبع إلى رؤساء الدول الأعضاء وخاصة منهم من يقضي آخر ولاية له على رأس الدولة وقد عايشوا السنوات الأولى من البناء المغاربي إلى جانب القيادات التاريخية حتى يضربوا موعدا مع التاريخ بإقدامهم على الدعوة لعقد قمة طارئة للاتحاد إيذانا بفتح مرحلة جديدة من العمل المغاربي المشترك تحيي الأطر والاتفاقيات القديمة وتدفعها نحو التجسيد والتفعيل وتدفع في اتجاه الإعداد لأطر جديدة للعمل المشترك من أجل التصدي الجماعي للإرهاب وللتهريب ولكل مظاهر الجريمة المنظمة وتتخذ المواقف الموحدة من القضايا المطروحة على خلفية التطورات الجيوسياسية السائدة إقليميا ودوليا، خاصة والمنطقة العربية أصبحت مسرحا لحلقة جديدة من الصراع الدولي تذكر بفترة الحرب الباردة في ظل الثنائية القطبية بعد ما دخلت روسيا ومعها الصين في الحرب الدائرة في العراق والشام بطلب من القيادة السورية وبتنسيق مع العراق وإيران وقد تكون طرفا فاعلا فيما يتم الإعداد له من تدخل عسكري قد يكون وشيكا في ليبيا , ومن مصلحة الدول المغاربية أن تكون لها شراكة استراتيجية شاملة لمواجهة هذه التحديات وأن توحد صفوفها ومواقفها من كل هذه التطورات حفاظا عن سيادتها وعن أمنها واستقرارها بعيدا عن سياسة المحاور.
في هذا السياق وإلى جانب ضرورة التسريع في صياغة موقف مغاربي موحد من التدخل العسكري المتوقع في ليبيا ومن الوقوف إلى جانبها بكل الإمكانات المتاحة بعد تشكيل حكومة الوفاق الوطني , فقد يكون من المصلحة التفكير في إنشاء آلية إقليمية للتنسيق والتعاون الأمني من أجل التعاطي المشترك مع ظاهرة الإرهاب وروافده بمساهمة الدول الإفريقية المعنية في علاقة بمربع الساحل الصحراوي المتاخم للمنطقة المغاربية الذي أصبح مأوى وملاذا للحركات المتطرفة والجماعات الإرهابية ومجموعات التهريب والجريمة المنظمة،وذلك على غرار ما فعلته الصين منذ أكثر من خمس عشرة سنة بإحداث منظمة شنغهاي للتعاون بهدف التنسيق في احتواء الحركات الدينية المتشددة والجماعات الإرهابية مع روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى، وقد يكون ذلك بدعم من الأمم المتحدة ومن المجتمع الدولي وربما في علاقة مع آلية 5+5 القائمة مع دول الضفة الشمالية للمتوسط.
ولا شك أن الدبلوماسية التونسية على وعي تام بخطورة الوضع وبدقة المرحلة بما يستوجب سرعة التحرك في هذا الاتجاه بالتنسيق مع دبلوماسيات الدول المجاورة من منطلق المصلحة المشتركة وفي إطار إذكاء روح التضامن والتكافل والتآزر بين دول المنطقة على الرغم من بعض التوترات التي لا تزال قائمة.
ولأن القادم قد يكون أسوأ على المنطقة بأكملها – لا قدر الله – فإن الواقعية السياسية والبراقماطية وإرادة التجاوز عن الاختلافات يجب أن تكون حاضرة لدى الجميع , وإذا كانت الخلافات تفرق بين الإخوة الأشقاء فإن الشدائد والأزمات تجمع بين الإخوة الأعداء , وفي العلاقات بين الشعوب والدول كما في السياسة ليست هناك لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل هناك مصالح دائمة فما بالك إذا كانت هذه المصالح ذات طابع إقليمي تجمع بين شعوب ودول متجانسة في العرق وفي الدين وفي اللغة وفي الثقافة وفي التاريخ والجغرافيا منذ قرون طويلة.
صالح الحامدي