كتيبة تحرير ماسينا .. من التمرد العرقي إلى مشروع زعزعة إقليمي في قلب الساحل الإفريقي

الشروق نت / لم تعد كتيبة تحرير ماسينا مجرد فصيل مسلح محدود النفوذ في مناطق الهشاشة بوسط مالي، بل تحوّلت في غضون عقد من الزمن إلى أحد أخطر اللاعبين الجهاديين في فضاء الساحل، مستندة إلى سردية عرقية – دينية محكمة، وبنية تنظيمية هجينة، وقدرة مذهلة على التمدد داخل بيئات متآكلة تخلّت عنها الدولة المركزية..
فما بدأ كتمرد محلي للفلان ضد التهميش، سرعان ما تطور إلى مشروع عابر للحدود يهدد بإعادة تشكيل خرائط السيطرة والسلطة في غرب إفريقيا.
من رحم الغبن العرقي إلى مشروع التمكين
تأسست كتيبة تحرير ماسينا رسمياً سنة 2015 على يد الداعية الفلاني أمادو كوفا، بعد سلسلة تحولات شهدها المشهد الجهادي عقب التدخل الفرنسي عام 2013 وتفكك تحالفات حركات أزواد..
استمدت الكتيبة تسميتها من “إمبراطورية ماسينا” التاريخية، في محاولة لإحياء إرث سياسي إسلامي محلي يتقاطع مع الهوية العرقية للفلان..
لكن الجذور الأولى للكيان تعود إلى لحظة التصدع بين حركة تحرير أزواد ومجموعة من المقاتلين الفلانيين، الذين رأوا في الالتحاق بحركة “أنصار الدين” إطاراً أكثر انسجاماً مع همومهم الإثنية – الدينية، قبل أن ينفصلوا لاحقاً ليشكلوا نواتهم القتالية الخاصة تحت اسم كتيبة تحرير ماسينا.
استثمار الهامش لتقويض المركز
في السنوات التي تلت الإعلان عن تأسيسها، رسّخت الكتيبة نفوذها في دلتا النيجر، وتمكنت من تثبيت موطئ قدم ثابت في ولايتي موبتي وسيغو، ثم شرعت في التوسع غرباً نحو كاي ونيورو، وجنوباً إلى شمال بوركينا فاسو، وشرقاً حتى تخوم تمبكتو.
هذا التمدد لم يكن مجرد انعكاس لانهيار الأجهزة الأمنية، بل ثمرة إستراتيجية متعددة الأبعاد ارتكزت على استغلال الشعور الجمعي بالمظلومية لدى الفلان، وتوظيفه في بناء مشروع تعبئة مسلح يستند إلى منظومة حكم محلية، قوامها “المراكز الميدانية” التي تتولى التنفيذ بإشراف قادة محليين ومجالس شورى وقضاة شرعيين.
طفرة عسكرية وتكتيك جديد
منذ مايو 2025، شهدت الكتيبة نقلة نوعية في نشاطها العسكري، عبر موجة هجومية هي الأعنف منذ تأسيسها، أسفرت عن تنفيذ عشر عمليات كبرى خلال أقل من شهر.. أبرزها الهجوم على قاعدة بوليكيسي قرب حدود بوركينا فاسو، الذي خلّف أكثر من ستين قتيلاً في صفوف الجيش المالي، في مشهد أعاد التأكيد على قدرة الكتيبة على ضرب أهداف استراتيجية رغم الحصار العسكري المفروض عليها.
لكن اللافت ليس فقط عدد العمليات بل تطورها النوعي، إذ لجأت الكتيبة إلى استخدام طائرات مسيّرة صغيرة لاستهداف مواقع عسكرية، في تحول تقني يشير إلى تصاعد كفاءتها القتالية واعتمادها المتزايد على أدوات الحرب منخفضة التكلفة عالية التأثير..كما سُجّل تنسيق غير مسبوق مع مقاتلي “أنصار الإسلام” في شمال بوركينا فاسو، ما يعكس اندماج الكتيبة ضمن شبكة جهادية إقليمية تتجاوز الاعتبارات الوطنية، وتستهدف إرباك الخرائط السياسية القائمة.
الجغرافيا المعاد تشكيلها
لم تعد دلتا النيجر وحدها تمثل القلب النابض للكتيبة. التوسع نحو كاي ونيورو يبرز رغبة واضحة في الالتفاف على خاصرة الدولة المالية، والتوغل نحو الحدود السنغالية والموريتانية، بما يشير إلى إرادة معلنة لربط الساحل بالعمق الغربي، لا عبر طرق التجارة الشرعية، بل عبر شبكات الاقتصاد الموازي، من تهريب الوقود والذهب إلى خطوط الهجرة السرية.
هذا التحول الجغرافي أرفق باشتباكات متكررة قرب نيورو، وتفجيرات استهدفت قوافل تجارية مغربية، ما يثير احتمال انفتاح جبهة توتر جديدة على حدود المغرب العربي.
ثلاثية البقاء والتمدد
يكمن سر صمود كتيبة تحرير ماسينا في ثلاث ركائز متشابكة تمنحها قدرة استثنائية على الاستمرار:
1. الشرعية الرمزية: تستحضر الكتيبة إرث إمبراطورية ماسينا لتلبس نفسها ثوب “الحامية” للفلان، وتطرح مشروعها كمقاومة ضد تهميش ممنهج يصل في نظر كثيرين إلى حدود الإبادة الصامتة.
2. المرونة التنظيمية: تتبنى الكتيبة هيكلاً لا مركزياً يتيح لكل وحدة ميدانية هامشاً واسعاً من القرار العملياتي، دون المساس بالولاء لأمادو كوفا، الذي يحتفظ بسلطة شرعية وروحية بوصفه نائباً لأمير “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”.
3. الاندماج المجتمعي: لا يقتصر دور الكتيبة على العمليات العسكرية، بل تسعى إلى ملء فراغ الدولة عبر فرض قوانين محلية، وحل النزاعات، وتوفير الأمن – ولو بمنطق قسري – مما يجعلها شريكاً فعلياً في تنظيم الحياة اليومية لسكان المناطق المهمشة.
دولة تتآكل من الأطراف
فشل الدولة المالية في احتواء الكتيبة لا يختزل في ضعف أجهزتها العسكرية، بل يتجسد أساساً في السياسات القمعية المعتمدة من قبل الجيش والميليشيات المتحالفة معه، وعلى رأسها مجموعات “فاغنر” الروسية..
. الانتهاكات الواسعة – من إعدامات ميدانية واعتقالات تعسفية إلى التدمير المنهجي للقرى – دفعت شرائح واسعة من الفلان إلى الانخراط في مشروع الكتيبة، لا بوصفه خياراً عقائدياً، بل كوسيلة للبقاء، وأداة للدفاع عن الذات في وجه عنف مؤسسي يعتبرونه امتداداً للدولة نفسها.
نحو نظام مضاد للدولة
ما يجري في وسط مالي لا يمكن اختزاله في تمرّد مسلح، بل هو مشروع هيمنة بديلة يلتهم الدولة من الأطراف ويعيد توزيع السلطة وفق معايير عرقية وشبكية. كتيبة ماسينا لم تعد تستهدف الدولة فقط، بل تسعى لاستبدالها بنموذج “تمكين من الهامش”، حيث يغدو التفاوض مع السلاح أكثر تأثيراً من انتظار حضور الدولة.
ومع تصاعد هذا المسار، فإن الخطر لم يعد مقتصراً على مالي، بل بات قابلاً للتمدد في كامل الشريط الساحلي، من بوركينا فاسو والنيجر، إلى موريتانيا والسنغال، وحتى عمق غرب إفريقيا.. فحين تنهار الدولة كمرجعية، لا تعود الجغرافيا تُقرأ من الخرائط الرسمية، بل من خطوط التماس التي ترسمها الجماعات. وعندها، يتحوّل الأمن إلى عملة تفاوضية، والشرعية إلى غنيمة تُنتزع لا ميثاق يُمنح.
#عالي أحمد سالم الملقب (البو)