“وآهٍ من الموت ما أثقله ..
الشروق / كُنت أحسبني من أهل التَّجلّد والصبر، وأظُنُني ممن لديهم القدرة على منع أعينهم من البكاء،وقلوبهم من الجَزَع في أصعب اللّحظات،حتى وافَت المَنِيَّة قبل أيام أخي وابن عمي محمد الطالب مصطف المختار -رحمه الله-فَعَلِمْتُ أنّ من المواقف ما لا يستطيع القلب احتماله،ولا تُطيق النفس تجرُّعَه…
ذهبنا بالمرحوم-بإذن الله-إلى مقبرة”المعلاة”،وبينما كنا مشغولين في تجهيز القبر إذ سَرَحَت بي النفس في عالم الموتى،فَطَفِقتُ أتأمّل في تلك القبور الممتدّة على مرأى الأعيُن، وأتساءل من يا تُرى من أصحاب هذه القبور فُتحت له في حياته أبواب المجد والشهرة…؟ومن منهم فُتحت له أبوب الشَّرف والمنزلة السامية…؟ومن منهم فُتحت له أبواب العناء والشقاء…فلم يَذُق للحياة طعماً ولم يجد لها لذة؟،ومن منهم فُتحت له أبواب المحبة والإخاء والوفاء…؟ ومن منهم فُتحت له أبواب الحسد والحقد والغدر والبغضاء…؟،ومن منهم انتهى به المطاف مع الأشقياء…؟ومن منهم وَجَد نفسه بِصُحبة الأتقياء السعداء…؟وهل يعلم الأحياء أنّ الحياة التي يعيشونها بطيبها ونعيمها وبُؤسها وشقائها تُؤدي في نهايتها إلى هذا المصير…!؟.
ومكَثْتُ أُسائل نفسي فلم أسمع جوباً ولا اعتراضاً،فَظَل الفكر يحملُ فكراً،والخاطر يَتْبَع خاطراً في ذلك الحَيَّز المكاني،الذي تأتيه العيون وهي تَسْكُب الدموع،وتودِّعه القلوب وهي مُطلِقةً للنَّفس في سبيل الحزن عَنانها…وآه من الموت ما أثقله!.
وبينما أنا ذاهِلُ النّفس،مُسْتَغْرِقٌ لا أشعر بشيء مما حولي إذْ بـعمي الشيخ “الطالب مصطف” يقول لابنه وهو يُودِعُه القبر بِلُغَةٍ يَتَّضِح فيها الأثر الإيماني،وكلمات تحمل دِفْءَ الأمل بالله،والشعور برحمته” أستودعك الله…وأسأله تعالى أن يجمعنا بك في جَنّات النَّعيم”فاخْتَنَقَت العَبَرات في صدري،وارتعدت ارتعاداً شديداً،وكِدْتُ أسقطُ من الرَّهْبَة والخَشْيَة،وأحْسَسْتُ أنّ قلبي فارق موضعه إلى حيث لا أعلم؛لإيماني بِعَدَم وجود مَنْزِلةٍ بين المنْزِلَتَيْن،فإمّا جنَّةٌ وإمّا نار،ونظرت إلى الشيخ “الطالب مصطف”نظرةً طويلةً لم اسْتَرْجِعْها إلا مُبَلَّلةً بالدَّمع المنسجم؛لأنه كان ينظر إلى جثمان ابنه نَظَرة من يعلم حَقَّ العِلْم أنّ فَلَذَة كبده التي سوف يُوارى عليها الثَّرى،ليست سوى وديعة من وَدائِع الله أَعَارَها له بُرْهَةً من الزَّمَن ثم استَرَدَّها.
اللهم إنَّك تعلم أنَّ لنا آباءً،وإخواناً وأحباباً فارقناهم فراقاً لا لقاء بعده في الدنيا،فاجمعنا بهم في جنات النَّعيم، بفضلك وكرمك،لا بأعمالنا وأفعالنا…
عبد الله يوسف