أخبار كوركولأخبار وتقاريرمميز

الاستصلاح أم الاستيلاء المقنّع؟ من أراضي مشروع فم لكليتة إلى استهداف أراضٍ مملوكة جديدة

الشروق نت  / عُقد أمس اجتماع في مباني مقاطعة أمبود، بحضور الحاكم المساعد، وممثل عن وزارة الزراعة والسيادة الغذائية، وممثل عن مندوبية «تآزر»، ومدير شركة السكر على مستوى فم لكليتة، ومن الجهة الأخرى النائب جعفر ولد ماء العينين، والنائب الحسن ولد باها، وعمدة بلدية فم لكليتة هاشم ولد أعلي الملقب «هادية»، وعمدة بلدية أمبود.

اجتماع قُدِّم في ظاهره بوصفه لقاءً إداريًا تشاوريًا حول “استصلاح زراعي جديد في المقاطعة ”، غير أن ما تكشف لاحقًا، سواء خلال النقاش أو من خلال ما سبقه من معطيات، يضعه في سياق مختلف تمامًا، عنوانه الحقيقي.. مسعى واضح لإفراغ أراضي مشروع فم لكليتة من مزارعيه الشرعيين، والتمهيد لمحاولة سلب أراضٍ جديدة مملوكة أيضًا.. وتمرير مشروع شركة السكر بطرق ملتوية، بعيدًا عن أعين أصحاب الحق.

فمنذ اللحظة الأولى، بدا أن الحديث عن استصلاح جديد لدعم زراعة الخضروات ليس سوى واجهة لغوية لتغليف هدف آخر.

وخلال النقاش، أعاد النائب جعفر ولد ماء العينين تذكير البعثة بتعهّد سابق، قُطع  له خلال الأسابيع المنصرمة، من مندوب «تآزر» ، يقضي باستصلاح 1650 هكتارًا داخل مشروع فم لكليتة، وهي أراضٍ مشمولة باتفاق 1982 الموقع بين الدولة والملاك الأصليين، عقب ترحيلهم من مناطقهم الأصلية لإنجاز سد فم لكليتة.

تعهّد ثقيل الدلالة، لأنه يعيد فتح ملف لم يُغلق أصلًا، ولأنه يضع المشروع الجديد في تماس مباشر مع التزامات قانونية وتاريخية لا يمكن القفز عليها.

ردّ البعثة جاء سريعًا بنفي هذا الربط، والتأكيد على أن “الاستصلاح الجديد” سيكون في مناطق أخرى، خارج أراضي المشروع.

غير أن المفارقة الصادمة، والتي لم تنجح لغة الخرائط في إخفائها، أن هذه “المناطق الجديدة” هي بدورها أراضٍ مملوكة لخصوصيين.

أي أننا لسنا أمام تراجع عن سلب، بل أمام محاولة سلب جديدة، تنتقل فقط من أرض مملوكة إلى أرض مملوكة أخرى، وكأن المشكلة في اسم المشروع لا في جوهر الفعل.

وهنا يتضح أن وزارة الزراعة ومندوبية «تآزر» وشركة السكر لم تعد تقارير حيادية تعكس الواقع، بل تُنتج سردية مصممة بعناية لحجب الحقائق عن السلطات العليا، وتقديم صورة مصطنعة عن “قبول محلي” لا وجود له.

فالرفض الشعبي لإقامة مشروع السكر في أراضي مشروع فم لكليتة لم يكن يومًا سرًا، وقد عبّر عنه المزارعون مرارًا وبوضوح، باعتبار تلك الأراضي ملكًا لهم بموجب اتفاق 1982، وهو اتفاق موثق ومحدد البنود، لا يحتمل التأويل ولا الإسقاط الانتقائي.

الأخطر من ذلك هو الأسلوب المعتمد لتمرير هذا المسار؛ دراسات يُراد اعتمادها، وقد أُسست في حيثياتها على آراء من لا يعنيهم الأمر أصلًا، أشخاص لا يملكون أرضًا، ولا يمثلون المزارعين، ولا تربطهم بالمشروع سوى مصلحة عابرة .

فكيف يمكن لمؤسسات يُفترض أنها تعمل باسم الدولة أن تبني قرارات مصيرية تمس الاستقرار الاجتماعي وحقوق الملكية على معطيات مختلة، وتتجاهل أصحاب الحق الحقيقيين، ثم تطلب من المجتمع المحلي القبول بالأمر الواقع وكأنه قدر لا يُرد؟

وتزداد خطورة هذا المسار حين نضعه في سياق دور شركة السكر، التي تحولت، بفعل هذا النهج، إلى رأس الحربة في محاولة فرض مشروع فشل لأزيد من عشر سنوات، أُهدرت خلالها مليارات الأوقية من المال العام دون أن تحقق إنجازًا واحدًا يُذكر.

وبدل أن يُفتح نقاش شفاف حول أسباب هذا الفشل، يجري الهروب إلى الأمام، ومحاولة تحميل كلفته لمزارعين لا ذنب لهم سوى تمسكهم بحقهم في الأرض.

لقد كشف الاجتماع، من زاوية أخرى، حقيقة بالغة الأهمية:

أن المنتخبين ليسوا وكلاء في أملاك خصوصية، ولا يملكون أي تفويض يمنحهم حق التنازل عن أراضٍ لا تعود لهم.

وفي هذا الإطار، يُسجَّل موقف واضح ومشرّف لمنتخبين اثنين وقفا مع المواطنين، ورفضا استصلاح أراضٍ مملوكة، ورفضا ترحيل مزارعي مشروع فم لكليتة عن أرض يملكونها حقًا وقانونًا.

هذا الموقف العميق في دلالته، أعاد التذكير بأن الوظيفة التمثيلية ليست غطاءً لسلب الحقوق، بل أداة لحمايتها.

في المقابل، يثير الاستغراب – والقلق معًا – أن يبارك سياسيون آخرون هذا المسار، رغم وضوح مخاطره، لأن مباركة سلب أراضٍ من مواطنين انتخبوك تكشف الوجه الخفي للمصلحة الخاصة، وتعرّي حقيقة من يقدّمون حساباتهم الضيقة على حساب السلم الأهلي.

فالأرض هنا ليست ملفًا تقنيًا، بل صمام أمان اجتماعي، وأي عبث بها عبر الغموض والتزييف وتجاوز أصحابها هو تهديد مباشر للاستقرار.

إن ما يجري اليوم لا يمكن عزله عن حقيقة أساسية.. الإصرار على عدم الجلوس مع المزارعين، وعدم فتح نقاش صريح معهم، والاكتفاء بتقارير تُفصّل على المقاس، يؤكد أن الهدف ليس التنمية، بل تمرير قبول إنشاء شركة السكر في أراضي مشروع فم لكليتة، بعيدًا عن أعين من يملكون الحق في القبول أو الرفض.

التنمية الحقيقية لا تُبنى على الالتفاف، ولا على تزييف الوقائع، ولا على استخدام الاستصلاح الزراعي غطاءً لمشاريع صناعية مرفوضة.

وما جرى في أمبود لم يكن مجرد اجتماع، بل لحظة كاشفة، فضحت المنهج، وعرّت النوايا، وأعادت طرح السؤال الجوهري:

مع من تقف السياسات العمومية، مع أصحاب الأرض أم مع من يسعون إلى انتزاعها باسم شعارات لا تصمد أمام أول اختبار للحق؟

البو أحمد سالم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى