أخبار وتقاريركتاب ومقالاتمميز

موريتانيا… الاستثناء الصلب في قلب الساحل المنهار

بين الانفجار الإقليمي والاستثناء الوطني... كيف حوّلت نواكشوط رمالها إلى جدار صدّ؟

الشروق نت / في إقليم تتهاوى فيه الدول تحت سطوة الجهادية المسلحة والانقلابات العسكرية، تبرز موريتانيا كاستثناء متماسك في قلب الساحل، إذ حافظت على استقرارها في مواجهة عواصف متفاقمة عصفت بجوارها القريب، من مالي والنيجر إلى بوركينا فاسو. وبينما تقاتل الدول المجاورة للحفاظ على حد أدنى من السيطرة، تنجح نواكشوط في إدارة أمنها وحدودها ومجتمعها بعقلانية لافتة واستراتيجية مرنة.

هذا التماسك لم يكن وليد عزلة جغرافية ولا هدوء طارئ، بل نتاج هندسة أمنية مركّبة، تُرجمت إلى ما يُعرف ضمن أدبيات الأمن الإقليمي بـ”النموذج الموريتاني” في مكافحة الإرهاب (ICG Report 2021)، وهو نموذج مبني على عقلية وقائية، تشتبك مع التهديد قبل أن يتجسد.

الجيش المتجدد .. عندما تتحول المؤسسة العسكرية إلى أداة مرنة للردع الوقائي

إدراكًا لطبيعة التهديدات المتغيرة، خصوصًا في بيئة صحراوية مفتوحة، أعادت موريتانيا هيكلة جيشها بشكل جذري منذ عام 2009، مستحدثة وحدات تدخل سريع (Forces Spéciales de Réaction Rapide – GSI)، وتدريبات عالية التأقلم للتعامل مع المجموعات المسلحة غير النظامية.

وقد أشار تقرير لبعثة الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب (UNOCT, 2022) إلى أن موريتانيا من الدول القليلة التي تبنّت “عقيدة تدخل وقائي” قادرة على صد الهجمات قبل وقوعها، عكس الأنظمة المجاورة التي غالبًا ما تتحرك بعد فوات الأوان.

“الجمالة”.. استخبارات عميقة تنطق بلهجة الرمال

تمثل وحدات “الجمالة” حالة فريدة عالميًا في العمل الاستخباراتي الصحراوي، وهي موضوع دراسات مستقلة مثل تقرير Sahel Security Studies (2021) الذي وصفها بأنها “نموذج للتكيّف الأمني الثقافي”، حيث تعتمد على مهارات بشرية لا تقنية، قائمة على التجذر الاجتماعي ومعرفة ديناميات المجتمع القبلي.

لقد تحولت هذه الوحدات إلى شبكات إنذار مبكر تخترق النسيج المحلي بهدوء، وتُعتبر من أسباب كشف عدة محاولات تسلل جهاديين من شمال مالي خلال السنوات الأخيرة.

تأمين الحدود .. من الرمال السائبة إلى السيادة المراقبة

منذ 2015، اعتُمدت سياسة “الحدود النشطة”، بإنشاء منطقة عسكرية مغلقة على امتداد الحدود مع مالي، وهو ما أثبت نجاعته بحسب تقارير معهد الدراسات الأمنية ISS Africa (2020)، التي رصدت تراجعًا كبيرًا في اختراق الجماعات المسلحة للمجال الموريتاني مقارنة بدول الجوار.

وقد أُدمجت أدوات مراقبة حديثة كالطائرات المسيرة (من طراز Orbiter وMohajer )، قبل أن تُستبدل بأنظمة فرنسية وصينية)، وأدخلت تقنيات استشعار ميداني لتعزيز الفعالية دون إثقال كلفة الانتشار البشري.

“الإسلام الحصيف” .. تفكيك الغلو من داخل المرجعية

بحسب دراسة ميدانية لمركز SIPRI السويدي (2023)، فإن موريتانيا من الدول القليلة التي راهنت على تفكيك الفكر المتطرف عبر أدوات دينية داخلية، دون الارتهان للنماذج المستوردة. وقد أدى الاعتماد على علماء محليين من المذهب المالكي، وتفعيل المنابر الرسمية، إلى خفض جاذبية الخطاب الجهادي، خصوصًا في صفوف الشباب.

البرامج الحوارية لإعادة التأهيل، مثل تلك التي أطلقتها إدارة الأمن الوطني عام 2010، والتي شملت نقاشات بين العلماء وسجناء متطرفين سابقين، اعتُبرت نموذجًا رائدًا ضمن برنامج Deradicalization Models in Africa الذي أشرفت عليه UNDP.

الوحدة العقائدية كخط دفاع ناعم

في بلد يضم طيفًا إثنيًا متنوعًا، شكلت الوحدة المذهبية عاملًا حاسمًا في تفويت الفرصة على الجماعات التي تستثمر في الانقسامات. وبحسب دراسة مشتركة أعدها African Centre for the Study and Research on Terrorism (ACSRT)، فإن “التجانس الديني في موريتانيا يشكل صمّام أمان قويًا ضد سيناريوهات لبننة أو عرقنة الصراعات”.

وقد أتاحت هذه الوحدة إنتاج “عقد اجتماعي غير مكتوب”، يُراكم الولاء للدولة على قاعدة الشرعية الثقافية، وليس فقط القوة.

غزواني.. الإستراتيجي البارد خلف الكواليس

محمد ولد الشيخ الغزواني ليس فقط رجل دولة، بل “مهندس تماسك موريتانيا الحديث” بحسب وصف تقرير Carnegie Endowment (2022)، إذ أدرك باكرًا أن مقارعة الفوضى تبدأ من بناء المؤسسات، لا من تعبئة الجبهات.

منذ توليه قيادة الأركان، وضع معالم مشروع أمني مستدام، قائم على التفكيك الناعم للتهديدات بدل مواجهتها المباشرة فقط. وحين انتقل إلى الرئاسة، حافظ على هذه المقاربة، مدعّمًا إياها بانفتاح سياسي، وحوار مع المعارضة، وسياسات اجتماعية تراعي الهشاشة في الأطراف. 

موريتانيا: توازن داخلي لا يُستعار

في المشهد الساحلي، حيث تتصارع القوى الدولية (فرنسا، روسيا، تركيا، الولايات المتحدة) وتتنافس على النفوذ من بوابة مكافحة الإرهاب، تظهر نواكشوط كفاعل متزن، لا تابع ولا معزول. فهي تتعاون أمنيًا دون ارتهان، وتشارك استخباراتيًا دون أن تكون حليفًا مشروطًا.

هذا التموضع الذكي، الذي وصفته مجلة The Africa Report بـ”الحياد النشط”، منح موريتانيا هامشًا للمناورة، وأمّن لها استقرارًا لا تحققه حتى الدول الممولة من الخارج.

  من الرمال إلى الاستراتيجية… موريتانيا نموذج لا يُستنسخ، بل يُستلهم

في زمن تحوّلت فيه الدول إلى خطوط صد هشّة، نجحت موريتانيا في تحويل الصحراء من نقطة ضعف إلى مجال مناورة، وبنت أمنها من الداخل، لا من السفارات الأجنبية. صحيح أن النموذج الموريتاني ليس مثاليًا، لكنه يُظهر أن هناك طريقًا ثالثًا بين الانخراط الأعمى والعزلة الانكفائية: طريق السيادة المتدرجة، والرؤية المتكاملة.

عالي أحمد سالم الملقب (البو) صحفي متخصص في الشؤون الأمنية لمنطقة الساحل 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى