الحلقة الأخيرة: كيهيدي… احتكار يتجدد وظل التهميش لا يزول

الشروق نت – تحقيق
في كيهيدي، عاصمة ولاية كوركول، تُعاد كتابة المشهد ذاته الذي شهدته مقاطعات مجاورة كأمبود، لكصيبة، مقامة ومونكل، حيث تفرض مكونة اجتماعية واحدة هيمنتها شبه المطلقة على المناصب السياسية والوظيفية، في حين تُقصى مكونات أخرى ذات ثقل اجتماعي وعددي من أبسط مظاهر التمثيل السياسي والإداري، في مشهد يعكس اختلالًا عميقًا في مبدأ التوازن والعدالة السياسية.
اللافت في كيهيدي، أن هذا الاحتكار لا يقتصر على مفاصل الدولة المحلية، بل يمتد أفقيًا وعموديًا ليشمل تمثيل الجهة، البرلمان، السفارات، الإدارات المركزية، ومجالس التعيين، دون أن ينعكس هذا التمثيل المُطلق على مكونة أخرى تشكل جزءًا أساسيًا من النسيج السكاني والاجتماعي للمقاطعة وتحديدًا تلك المكونة التي بات يُشار إليها اليوم بـ”المهمشة”، رغم أنها حصدت أكثر من 30% من الأصوات خلال الانتخابات التشريعية والبلدية الأخيرة، بالرغم من دعم أبرز فاعليها السياسيين لمرشحي حزب الإنصاف المنتمين للمكونة المحتكرة..
من التعدد إلى التهميش: مشهد منسي من تاريخ كيهيدي
إنّ هذا التهميش الذي تعاني منه هذه المكونة اليوم، لم يكن هو السائد دائمًا.. فقد عرفت المقاطعة في بداية التعددية السياسية تمثيلًا متوازنًا نسبيًا بين المكونات، مكّن أبناء المكونة المغيبة حاليًا من الوصول إلى مناصب انتخابية مهمة، انسجامًا مع ثقلهم الشعبي والاجتماعي.
ففي سنة 1992، فاز عبد الرحيم ولد السجاد بمنصب عمدة كيهيدي، ليكون أول عمدة من هذه المكونة، غير أنه اضطر لاحقًا للتنازل عن المنصب بعد تدخل مباشر من الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع.
وفي 1994، فاز النقرة ولد أحمد بنان بمقعد لمجلس الشيوخ عن كيهيدي، ليكون أول شيخ عن المقاطعة وفي 1996 فاز عليون ولد منزه بمقعد نائب عن المقاطعة، وظل يشغله حتى سنة 2007.
كما فازت عائشة منت أنويص في انتخابات 2007، ممثلة عن نفس المكونة، بينما أفرزت انتخابات 2013 خلطًا سياسيًا كبيرًا بعد تطبيق قانون النسبية لأول مرة، ما أدى إلى إقصاء مرشحي المكونة من حزب الكرامة،- و اللذين فازوا حسب بعض المصادر – لصالح مرشح النظام حينها با يحيا بوكر ، و الذي تم تعيينه مباشرة وزيرا في الحكومة لخلق التوازن بين المكونات و إفساح المجال، لخلفه زينب منت أوبك ممثلة للمكونة في البرلمان.
وفي 2018، عاد التمثيل تدريجيًا بعد فوز النائبة زينب منت أوبك عن الحزب الحاكم ، والنائب باب بنيوك عن حزب التحالف الوطني الديمقراطي، ما شكل أول تمثيل مزدوج للمكونة المغيبة في البرلمان.
وفي انتخابات 2023، مُثلت كيهيدي للمرة الثانية بثلاثة نواب من المكونة المحتكرة، فيما غابت المكونة الأخرى تمامًا عن التمثيل النيابي..
خارطة الاحتكار الوظيفي: تمثيل أحادي يعكس عمق الإقصاء
تمتد هيمنة هذه المجموعة لتشمل المفاصل الحساسة التالية:
رئاسة جهة كوركول: با آمادو با
نواب المقاطعة الثلاثة: صو موسى دمبا، محمد عبدول انجاي، صمبا كولي با
عمد أربع بلديات من أصل خمس
السفير بالمملكة المتحدة با صمبا ممدو
السفير بدولة كندا أنيانغ جبريل
المستشار الأول بسفارة موريتانيا في كوريا الجنوبية
الأمين العام للوزارة المكلفة بالميزانية جالو مامادو
المدير الإداري والمالي بوزارة الداخلية جاك عبد الرزاق
المدير العام المساعد للمركب الأولمبي دمبا انجاي (عمدة كيهيدي)
المستشار القانوني بوزارة الخارجية يوسف با
رئيسة مجلس إدارة مؤسسة عمومية بندا صو هذا مع عشرات الموظفين الحكوميين في أماكن أخرى متعددة
تمثيل السوننكي بين الحضور الرمزي والتأثير الملموس
رغم أن الحضور العددي للمجموعة السوننكية يتركز في مدينة كيهيدي أساسا ، إلا أنها تحظى بتمثيل وظيفي معتبر في مواقع حكومية وإدارية حساسة، وتُستمد قوتها الانتخابية من مكاتب التصويت الموجودة في البلدية والعدالة فقط ،ما يمنحها وزنًا انتخابيًا رمزيًا، تُرجم إلى تمثيل إداري ملموس..
ومن أبرز شخصياتها:
المدير المساعد لديوان رئاسة الجمهورية غانديغا فاتمتا
رئيس المنطقة الحرة: إسحاقا جاكنا
عميد كلية العلوم والتقنيات: يعقوب جاكانا
مكلف بمهة في وزارة الداخلية محمدو جكانا
المدير بوزارة تمكين الشباب فوديه جكنا
غير أن هذا الحضور السوننكي، رغم محدوديته الجغرافية، يفرز واقعًا مريرًا في أوساط المكونة المهمشة، حيث يُقرأ كتجاهل فجّ لكفاءاتها وتاريخها السياسي، ويُعمّق الإحساس بالغبن والإقصاء، خصوصًا مع استمرار تلك المكونة في تقديم تضحيات سياسية متواصلة، واصطفافها الدائم خلف خيارات النظام والحزب الحاكم، دون أن يقابَل ذلك باعتراف سياسي أو إنصاف إداري يليق بثقلها العددي ودورها الانتخابي المحوري في المقاطعة.
المكونة المغيبة : كتلة انتخابية فاعلة تُقابل بالتجاهل
تمثل المكونة المغيبة اليوم أحد أكبر المكونات السكانية في المقاطعة، حسب آخر إحصائيات السكان والمساكن، وتمتلك رصيدًا نضاليًا وتاريخيًا طويلًا في العمل السياسي ، ومع ذلك، يقتصر تمثيلها السياسي اليوم على عمدة بلدية توفندى سيفه هاشم ولد محمد ، و نائب رئيس جهة ولاية كوركول السيدة أقيلة ديكو ، و العمدة المساعد لبلدية كيهيدي آبو سيسيى ،بينما يظل تمثيلها الوظيفي محصورًا في أسماء معدودة :
مدير المدرسة الوطنية للزراعة: سيد الخير ولد الطالب أخيار
المكلفة بمهمة بوزارة التهذيب: مريم منت محمد سيد
مدير في وزارة الثقافة: السيال ديكو
إطار بالمنطقة الحرة: الشيخ أحمد ولد التلمودي
نائبة رئيس جهة كوركول: أقيله ديكو
عضو المجلس الوطني للشباب: جدو ولد أعبيد الرحمن
ورغم محدودية التعيينات، فإن المكونة تضم شخصيات وازنة في العمل السياسي والمجتمعي ، تركت بصمات لا يستهان بها في تحقيق الفوز للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في المأموريتين الأولى و الثانية، و كانت هي مركز ثقل فوز مرشحي النظام على مر التاريخ السياسي لمقاطعة كيهيدي.
مدير المدرسة الوطنية للزراعة: سيد الخير ولد الطالب أخيار
أول عمدة من المكونة المهمشة حاليا عبد الرحيم ولد السجاد
الوجيه وعضو المجلس الوطني لحزب الإنصاف محمد ولد حنيه
النائب السابق عن مقاطعة كيهيدي الدكتوى باب ولد بنيوك
رجل الأعمال يعقوب ولد البنية
رئيس المنتدى الجهوي للمجتمع المدني اليماني ولد سيدي
الوجيه و الفاعل أشويخاتو ولد عبد الغفور
الفاعل آبو سيسى
الوجيه الداه ولد الهيبة
الفاعلة أقيله ديكو
الناشط الشبابي جدو ولد أعبيد الرحمن
غبنٌ غير مبرر… ومعادلة سياسية تُعيد إنتاج الإقصاء
ما يزيد هذا الواقع تعقيدًا، أن الغبن الممارس بحق المكونة المغيبة لم يعد قابلًا للتبرير بمنطق الكفاءة أو المردودية، بل أصبح امتدادًا لسياسات غير مؤسسة، تقوم على محاصصة ضيقة تُقصي وتُهمّش، بدل أن تُعزز العدالة التمثيلية.
فالمكونة التي دعمت مرشحي الحزب الحاكم، والتزمت بخياراته، وشاركت بكثافة في التصويت، ورفدت الدولة بكفاءات عالية في مجالات متعددة، تُقابل اليوم بتجاهل مستمر، يُكرّس الظلم، ويُربك قواعد الانتماء الوطني والتماسك المجتمعي.
إن هذا الواقع، في حال استمراره، يُنذر بانفصال وجداني ونفسي لدى شريحة كبيرة من المواطنين، ممن باتوا يشعرون بأنهم يُستغلّون انتخابيًا ويُقصَون إداريًا، ضمن دورة عبثية لا تنتج سوى مزيد من فقدان الثقة بالمؤسسات والدولة والنخبة السياسية.
مع ختام سلسلة تحقيقات الشروق نت حول مقاطعات ولاية كوركول، تبرز كيهيدي كنموذج بالغ الدلالة على أزمة التمثيل العادل والتوازن المؤسساتي.
فالمشهد العام يكشف عن خلل بنيوي في آليات الترشيح والتعيين، حيث تتحول الدولة من كيان ضامن للمساواة، إلى طرف راعٍ لمنظومة تمييزية تُعيد إنتاج الإقصاء، وتُغذّي التوترات الصامتة.
لقد آن الأوان لمراجعة جذرية للمعادلات المعتمدة، تُعيد الاعتبار لشرائح ظلّت على هامش القرار لعقود، وتُسهم في ترسيخ منطق المشاركة لا الاحتكار، والعدل لا المحاباة، والانتماء لا الإقصاء.
وإنصاف هذه المكونات ليس ترفًا سياسيًا ولا مجاملة ظرفية، بل ضرورة وطنية وأخلاقية لضمان استقرار البلد، وتقوية نسيجه الداخلي.
فموريتانيا لا تحتمل مزيدًا من الانقسامات الصامتة، ولا من السياسات العرجاء التي تُكافئ الولاء الظرفي، وتُعاقب النضج الوطني والمشاركة الفاعلة.
ولا يمكن للمركز أن يتحمّل وحده مسؤولية هذا الغبن البنيوي؛ إذ إن للنخب المحلية، السياسية والاجتماعية، نصيبًا من المسؤولية في إعادة إنتاج الإقصاء، حين تُسلّم بخريطة التهميش وتعيد تدوير معادلاته القديمة تحت مسميات جديدة.
فكيهيدي، كما غيرها من مدن كوركول، ليست مجرد فضاء جغرافي، بل مرآة لعدالة الدولة وصدقية شعاراتها. وإن كان هذا التحقيق يختتم سلسلة من الإضاءات، فإنه يفتتح في المقابل دعوة صريحة وملحّة إلى مراجعة شاملة وجريئة… لأن الوطن لا يُبنى على التفاوت، ولا يُصان على التمييز، ولا ينهض إلا بتمثيلٍ يُنصف الجميع، ويجمع الجميع، ويخدم الجميع.