مالي على حافة الانهيار… وموريتانيا في عين العاصفة الصامتة

الشروق نت / على نحو غير مسبوق، تتهاوى ركائز الدولة المالية في قلب الساحل الإفريقي، تحت ضغط مزدوج من الانهيار الأمني والتكلس السياسي. ففي الداخل، ترتقي الجماعات الجهادية وعلى رأسها حركة ماسينا مستوى تهديدها النوعي، مدشّنة مرحلة جديدة باستخدام الطائرات المسيّرة في الهجمات؛ وفي المقابل، تُحكم السلطة العسكرية قبضتها على البلاد، عبر حل شامل لكل المكونات السياسية والمدنية، في ظل إعادة تشكيل روسي لواجهة التدخل الخارجي، تمثلت بانتقال رسمي من “فاغنر” إلى “الفيلق الإفريقي”.
تبدو مالي، في هذا السياق، وكأنها تتحرك بثبات نحو نموذج الدولة الفاشلة ذات السيادة الشكلية: تتصلب خارجيًا، وتتفكك داخليًا، فيما تُراكم السلطة أدوات السيطرة بدل أدوات الحل.
ماسينا ترتقي في السماء: الطائرات المسيّرة تدخل المعركة
في سابقة خطيرة، لم تعد هجمات حركة ماسينا تقتصر على الكمائن أو الهجمات البرية. فخلال مايو ويونيو 2025، كشفت مصادر أمنية أن الحركة استخدمت طائرات مسيّرة في رصد تحركات الجيش المالي واستهداف بعض القواعد بشكل هجومي أو استكشافي، ما يمثل تحوّلًا نوعيًا في قدراتها التكتيكية.
وبحسب تقارير فرنسية ومالية، فإن إحدى المسيّرات التي استُخدمت في هجوم على معسكر قرب كورو كانت من طراز تجاري معدل، يُرجّح تهريبه عبر بوركينا فاسو أو النيجر. وقد مكّنت هذه المسيّرة المقاتلين من تحديد إحداثيات الهدف بدقة، قبل تنفيذ هجوم معقّد أوقع عشرات القتلى.
ويمثل هذا التحول بداية انتقال الحركة من نمطها الريفي-البشري المعتمد على الجغرافيا والكمّ، إلى نمط تقني-هجومي متقدم، ويعكس احتمال تلقي دعم عابر للحدود، سواء لوجستيًا أو تدريبيًا، في ظل انسحاب الشركاء الغربيين وعجز الجيش المالي عن التحديث التقني.
العسكرة الشاملة: وأد السياسة في مهدها
في العاشر من مايو 2025، أصدر المجلس العسكري مرسومًا بحلّ جميع الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية، بزعم الحفاظ على “وحدة البلاد” ومواجهة “التشظي الحزبي والانقسام التاريخي”.
القرار، الذي جاء بعد سنوات من التمديد غير المشروط للمرحلة الانتقالية، مثّل لحظة مفصلية في عسكرة المشهد العام. فقد ترافق مع حملة أمنية ضد شخصيات معارضة، وتجميد حسابات ومقرات العشرات من الأحزاب، وسط صمت إقليمي، واستنكار خجول من الأمم المتحدة.
بات العسكر اليوم هم الحاكم والحكم، في غياب تام لأي مؤسسة مدنية، وتزايد الاحتقان الشعبي، خصوصًا في الجنوب والمراكز الحضرية التي تشهد تدهورًا معيشيًا مستمرًا، وتهميشًا سياسيًا ممنهجًا.
من “فاغنر” إلى “الفيلق الإفريقي”: انسحاب رمزي وتموضع فعلي
في تحول لافت، أعلنت مجموعة “فاغنر” رسميًا إنهاء مهامها في مالي، لتخلفها قوة جديدة تدعى “الفيلق الإفريقي”، وهي وحدة نظامية تابعة مباشرة لوزارة الدفاع الروسية، وتعمل ضمن خطط استراتيجية متكاملة.
ورغم أن البعض قرأ في هذه الخطوة بداية انسحاب روسي، إلا أن الوقائع تُشير إلى العكس: نحن أمام إعادة تموضع محكمة، تمنح موسكو نفوذًا أكثر تنظيمًا وشرعية، بعيدًا عن سجل فاغنر الدموي وغير الرسمي.
الفارق الجوهري أن “الفيلق الإفريقي” يُدار من الدولة الروسية المركزية، ويُنسّق مع الأنظمة العسكرية ضمن أطر دبلوماسية رسمية، ما يسمح لموسكو بتوسيع حضورها في الساحل الإفريقي، دون كلفة سياسية كبرى.
لكن هذا التموضع يحمل خطرًا مضاعفًا: تثبيت معادلة “الأمن مقابل الشرعية”، حيث توفر موسكو الدعم العسكري الكامل لأنظمة استبدادية، دون أي شروط ديمقراطية، ما يعزز استدامة السلطوية ويقوّض فرص العودة إلى حكم مدني.
موريتانيا في عين العاصفة الصامتة
رغم أن موريتانيا حافظت حتى الآن على هامش واسع من الاستقرار الأمني مقارنة بجيرانها في الساحل، إلا أن التحولات الجارية في مالي تُنذر بتغير قواعد اللعبة على حدودها الشرقية والجنوبية، خاصة في ظل اتساع رقعة نشاط الجماعات الجهادية العابرة للحدود.
فمع تصاعد وتيرة هجمات “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، وتزايد استخدامها للطائرات المسيّرة والتقنيات الحديثة، تتضاعف احتمالات اختراق الحدود الموريتانية، خصوصًا في مناطق الحوض والعصابة، حيث هشاشة الرقابة الجغرافية وكثافة الروابط القبلية العابرة للحدود.
وتتخوف الأجهزة الأمنية في نواكشوط من أن يؤدي الفراغ الأمني في مالي إلى تحوّل مناطق كاملة على الحدود إلى ملاذات خلفية للمسلحين، تُستخدم للتموين والاختباء والتجنيد، بما يُعيد سيناريوهات اختراق 2005–2011 التي أدت حينها إلى هجمات دامية داخل العمق الموريتاني.
كما يُنذر التفكك الأمني والاجتماعي المتسارع في مالي بتدفقات بشرية غير منضبطة، تشمل لاجئين ومهجرين، بعضهم عرضة للتجنيد أو التطرّف، مما يُربك التوازنات المحلية في الشرق الموريتاني، ويُفاقم الضغوط على الخدمات والبنى التحتية الهشة أصلًا. وقد تؤدي انهيارات البُنى التقليدية في مناطق الطوارق والفولان إلى انتقال النزاعات المجتمعية إلى الأراضي الموريتانية، بفعل تشابك النسيج القبلي.
ورغم نجاح نواكشوط حتى اليوم في تطوير مقاربة استباقية ناعمة، تجمع بين الأمن والتنمية والدين، إلا أن استمرار التدهور في مالي، وتموضع لاعبين غير متحالفين مع النهج الموريتاني — مثل “الفيلق الإفريقي” الروسي — يُمثّل تهديدًا غير مباشر لهذا النموذج، ويضعه أمام اختبارات حادة في المرحلة المقبلة.
وبالتالي، فإن موريتانيا تجد نفسها اليوم أمام استحقاق أمني متجدد، يُحتّم تعزيز التنسيق الاستخباراتي الحدودي، وتحديث القدرات التقنية، وتجديد أدوات المواجهة الناعمة، كي لا تتحول إلى الحصن الأخير الذي تقرع الجماعات المتطرفة أبوابه حين تفرغ من الجنوب الملتهب.
بين القمع والجهاد: جسد الدولة يتآكل
تتزامن هذه التطورات مع تصاعد نوعي في التهديدات الجهادية، وتكريس كامل للعسكرة الداخلية، وتحول الحضور الأجنبي إلى ركيزة بنيوية في صوغ الدولة. ويُخشى أن ينزلق هذا المسار إلى تكريس حالة تفكك طويلة الأمد، تتحكم فيها الجماعات المسلحة بالأطراف، بينما تسيطر النخبة العسكرية على المركز، بدعم خارجي، وقطيعة متزايدة مع المجتمع الداخلي.
لقد باتت الدولة المالية اليوم جسدًا مفرغًا من الداخل، رأسه العسكري يتحرك خارج نبض القاعدة الاجتماعية، بينما تستثمر الجماعات الجهادية في هشاشته، وتعيد التموقع في الفراغات الجغرافية والبشرية.
هل من ضوء في نفق الانهيار؟
إن مستقبل مالي لن يُقاس فقط بقدرتها على دحر الجماعات المسلحة، بل بقدرتها على إعادة بناء عقد اجتماعي جديد، يُؤمن بالاختلاف، ويعيد إحياء السياسة كشراكة لا كخطر وجودي.
وفي ظل انسحاب شركاء غربيين، وتصاعد النفوذ الروسي، وتنامي التهديد الجهادي العابر للحدود، فإن الحاجة إلى مبادرة وطنية شاملة، تفتح الباب أمام انتقال مدني حقيقي، باتت ضرورة وجودية.
وإلا، فإن السؤال لن يكون “متى تستعيد مالي استقرارها؟”، بل “هل تبقى الدولة ذاتها موجودة أصلًا؟” أم أن البلاد ستُترك لخرائط العنف، وخرائط المصالح، لتُعيد رسمها من جديد؟ عالي أحمد سالم الملقب (البو)