الأنساب والهوية وتفسير التاريخ / محمد الحافظ الغابد
التحليل اللفظي الذي تقدم به العلامة الشيخ محمد الحسن الددو – حفظه الله – حول مفردة “إزناكن” مفهوم في سياق وظيفة البيان الشرعي، وتلك وظيفة عُـلمائية مقررة، وترتبط بواجب شرعي، والمطالبون بالسكوت عنه يريدون ترسيخ كتم العلم وعدم البيان، كما أن السياج الذي يريد البعض أن يضعه على بعض المفاهيم مناقض لحق الناس جميعا في المعرفة والبحث واكتشاف الحقيقة، وهذا حق من حقوق الإنسان في المجتمعات الحرة الحديثة.
– الأنساب من الدين
– الأنساب والهويات
– الأنساب والتاريخ
– عُـــقَــدُ التاريخ
أولا: الأنساب من الدين
الأنساب ليست موضوعا تاريخيا فقط،؛ بل هي مرتكز إنساني ديني، ذو مكانة في الشريعة رفيعة، حتى إن علماء الأصول اعتبروا النسل – أو الأنساب – من الكليات الدينية الخمس التي هي: (1-حفظ الدين 2-حفظ النفس 3-حفظ النسل 4-حفظ العقل 5-حفظ المال)؛ فالبناء القديم للعلوم والثقافة الإسلامية جعل علم الأنساب والسير والتاريخ من العلوم المهمة التي يشترط في المتصدر للاجتهاد في العلوم الشرعية أن يكون على معرفة كافية بها، هذا فضلا عن ضرورة التخصص فيها والقيام على معرفتها كعلم من العلوم التي يعتبر تعلمها فرضا كفائيا، يجب على البعض العلم به ليسقط عن الباقين.
ويرتبط بالأنساب الكثير من الحقائق الدينية الشرعية المهمة في الحياة الإنسانية، كالحقوق المتعلقة بالإرث والمتعلقة بالمحرمية، والحضانة، والنفقات ، والدية، والولاية – في الزواج – والوصاية على اليتيم، فضلا عن البر، والصلة، ونظام الولاء ..وغير ذلك كثير، وقد تطرقَت كتب المذاهب لأنظمة فقهية قانونية ضابطة للسلوك تعددت بتعدد هذه الجوانب وتطرقت لها قوانين متعددة في النظام القانوني للدولة المعاصرة، فالأنساب إذًا ليست ترفا فكريا؛ بل هي جُزء من علوم عدة، وتتعلق بها شرائع وأحكام، كما ترتبط بالتاريخ، وهويات الشعوب، ومنجزاتها الحضارية، ووعيها بذاتها، وإدراكها لدورها وسر وجودها – في التاريخ والدورات الحضارية.
ثانيا: الأنساب والهويات
استيقظت – في العقود الأخيرة – الهويات الفرعية للشعوب في العالم نتيجة عوامل مختلفة، من أبرزها مستوى الوعي لدى الناس، وانتشار المعلومات، وذوبان الحواجز، مما جعل القوميات تخرج من سجن ذاكرتها الذاتية، وتمتلك أدوات تمكنها من المساءلة والتأمل والبحث – ولو ذاتيا – عن حقيقة الهويات التي عرفوا أنفسهم من خلالها، وبالتالي أضحى نبش الأنساب جُزءا مهما من تحديد الهوية واكتشاف الذات بالنسبة للكثيرين، كما أسهمت جهود العلماء الموسوعيين – التي نُشِر بعضُها – في الدراسة المقارَنة؛ مما مكن من نسف فرضيات كانت قائمة، أو هز مسلمات، أو اكتشاف حقائق لم تكن معروفة.. هذا من جانب، ومن جانب آخر، بدأ صراع الأقوام حول الأفكار والتصنيفات التي كانت قائمة، والتي بنيت عليها مواقف استقرت لعدة عقود – أو حتى قرون – ثم مكن الوعي والعلم والتحرر من السرديات التاريخية إلى بناء وتشكل سرديات جديدة، في طريقها للترسخ بوصفها حقائقَ تَدمَغُ ما كان مستقِرا من قبل!
ومع شيوع وسائط التواصل الاجتماعي، أضحت هذه الوسائط فرصا للتداول حول الهويات الفرعية ومساءلة فرضيتها المستقِرة؟ وتبادل المعلومات حولها؛ مما جعل هذا الاهتمام مجالا لشغل الرأي العام، وأداة دعائيةً للكثير من الفاعلين.
ونتيجة الصراع الاجتماعي أضحت الأنظمة تتحفظ على هذه الجوانب؛ لما تثيره من إشكاليات صراعية مخيفة، قد تنعكس على الأمن والاستقرار.. من هنا تولدت حساسية الأنساب – وتأثيراتها – وما ينتج عنها من ردود فعل.. وشهيرة هي وقائع النقاش الأكاديمي في الجامعة أواخرَ الثمانينيات (حول الأنساب والأصول الاجتماعية) والذي كان يجري وسط نخبة جامعية إلا أن وقائعه وردات الفعل – التي ترتبت عليه – سممت كل نقاش مرتبطٍ به.. بعد ذلك وخلال العام 2020 نشر وزير سابق كتابا عن تاريخ شخصية قبَلية معينه، إلا أن كثيرين من القراء عَدوا الكتابَ مجردَ رواية أحادية حصرت المناقب في طرف واحد، ولم تتفادَ القَدح في الطرف المنافِس، وما إن طُرِح الكتاب في السوق حتى كاد يُحرَق ويؤدي لفتنه.. غير أن عشرات الكتب المناقبية – في تاريخ القبائل والأقوام والمجموعات – صدرت وتتداول بيسر وسهولة، لكن بشرط أن تكون خضعت للتعامل الذكي مع السردية القَبَلية الذاتية بحذر؛ لأن هذه في الغالب كانت جزءا من سردية تعبوية مليئة بالمبالغات – إن لم نقل الكذب المحض!
وبعض الكتب التي تتضمن تاريخ الشعوب والأقوام في هذه البلاد ستظل محصورة بين الجدران نتيجة احتوائها سرديات تنطوي على قدحيات في الخصوم والمنافسين من القبائل الأخرى، ولم تتيسر بعد فرص علمية ومؤسسية قادرة على التصفية وكتابة التاريخ على أسس مقبولة من الجميع، وهذا ليس خاصا بنا؛ بل هي إشكال وطني لكثير من الدول، ولكننا بحاجة لتفكير علمي مؤسسي قادر على التأسيس لمؤسسات علمية قادرة على كتابة التاريخ بمعاييرَ علميةٍ دقيقة، تتفادى سلبيات السرد التقليدي.
ثالثا: الأنساب والتاريخ
اهتم علماء الحديث والمؤرخون المسلمون القدامى والمحدثون بالأنساب لارتباطها بإسناد الحديث النبوي الشريف، ومعرفة رُواته ونَقَـلَتِه، وتأست على ذلك علوم ضخمة ضَعـُــفَ الاهتمام بها لانتشار الجهل، ولكن رغم ذلك لها، أهلها ونقلتها، ومدارسها في الهند واليمن والحجاز، وبالتالي فهذه العلوم حية ومستمرة، ولا يمكن أن تختفي وما تحمله من ثقافة دينية أو لغوية مستمر.
وفي منطقة الشمال والغرب الإفريقي عرفت هذه المنطقة تمازجا منقطع النظير، للقوميات والقبائل، والشعوب فشكلت خلال عشرة قرون وجودا للحضارة الإسلامية لم تنل منه القرون، الأخيرة للاستعمار الأوروبي، بل لاتزال المعركة الشرسة مع الحضور الفرنسي (الفرنجة: قادة الحروب الصليبية) قويا ومع ذلك برزت في دولتي مالي وبركينا فاسو في السنوات الأخيرة أصوات متشبثة بالهوية اللغوية العربية، فضلا عن تَـرَسُّخِ الإسلام دينا مهيمنا في هذه القارة، مما يكشف حقيقة مهمة وهي أن هذه المنطقة رغم قرون من التغريب لاتزال تعبر عن تعلقها بدورها الحضاري الإسلامي، وما يتبعه من هوية ثقافية عربية.
كان خطاب العلامة الددو ذكيا جدا خصوصا بيانه للدور التاريخي لصنهاجة، أو (إزناكن) ودورهم الحضاري الممتد من بعض حصون تونس وليبيا مرورا بمراكش والعابر نحو أعماق افريقيا الغربية، فقد أراد أن يذكر بأن الخط الحضاري للإسلام في المنطقة حيوي، وجزء من ذاكرة حاضرة في المصادر الموثوقة تاريخيا، مهما كانت تشويهات الصراعات القبلية، للمفاهيم التاريخية الناصعة، فإذا كانت بعض التشوهات حصلت نتيجة هيمنة الثقافة الحسانية حيث تتداول لفظة (أزناكه) بصورة قدحية، فإن له: (أي اللفظ) تاريخا حضاريا إيجابيا هو أولى بالإبراز والإشاعة بغض النظر عن تحريفات اللفظ كتابة ونطقا ووضعا واستعمالا فتلك تبقى هوامش والمتن هو ما أشار إليه الشيخ.
رابعا: عقد التاريخ
لقد حاول الشيخ أن يعيد صياغة الثقافة الاجتماعية ويرجع الأمور إلى نصابها، وهذه وظيفة تربوية ودعوية قام بها الشيخ على أكمل وجه، وهو بذلك يؤسس منهجا مهما في تجاوز عـقد التاريخ والتخلص من النفسية الانهزامية الناتجة عن رواسب التاريخ غير الرسمي للأمة، فإن تواريخ الأمة غنية بالعزة والكرامة، بدل الانكفاء على وهم السرديات القبلية فهذه لا تؤسس حضارة وإنما تؤسس شروخا صراعية.
يقول علماء الاجتماع:” إن القواعد التي يقوم عليها الحط من أقدار الآخرين لا تتضمن فقط المزاعم المغلوطه لكن أيضا التوهم بأن هوية مفردة يجب أن يربطها الآخرون بالشخص لكي يحطوا من قدره”.
ونحن المسلمين تخبرنا نصوص القرآن وفقه الابتلاء قال تعالى: (ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ)-سورة الملك.
فالمعيار الشرعي واضح: (ِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ما أحوج مجتمعنا للتعالي على التواريخ الصراعية وإعادة قراءة التاريخ الوطني وكتابته بسرديات جامعة، ووفقا للأخلاق الإسلامية، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم، ومجتمع الصدر الأول، فقد كانت سلبيات التاريخ تتوارث بشكل أعقد ولكنهم حكموا منطق الشرع فتركوا (..عُبِّيَّةَ الجاهليةِ وفخرَها بالآباءِ..).
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.