إفريقيا والحدود الموروثة عن الاستعمار..
الشروق / يُظهر تحليل الأحداث الجارية في الداخل المالي وعلى حدودها من كل الجهات أننا أمام دولة هشة – تكاد تكون فاشلة – وغير قادرةعلى إنجاز الجزء الأهم من وظائفها السيادية.
وذلك لأسباب عِدّة، ليس أقلها غياب سلطة متماسكة تحظى بالحد الأدنى من الشرعية والمشروعية.
وهذا الغياب يخلف فراغا عدميا يهدد الجميع، ولا يمكن ملؤه نيابة عن الماليين أنفسهم. يعني أن الأزمة المالية لن تحل بالاعتماد أوالتكلان على حكومته الطائشة والعاجزة تقريبا، ولن تحل بالتدخل الأجنبي ونهج “الذهاب إلى الحرب” الذي يروج له بعض الأطراف.
الاتفاق حاصل على أن الحل يستوجب خطة عمل طويلة الأمد، تجمع بين الصرامة والصلابة من جهة،والنعومة والإبداع الدبلوماسي والابتكار، من جهة أخرى.
كلنا نعلم أن مناطق الحدود في دول “الساحل” عموما هي مناطق “رمادية” تاريخيا تتأرجح بين “السّيبة”و “السّلم”.
احتلتها فرنسا وأقامت فيها مستعمرات ورسمت فيها حدودا مصطنعة – عبارة عن ألغام وقنابل موقوتة – قطّعت بها أوصال المجتمعات.
هذه الحدود موجودة على الورق، لكنها غير موجودة في أذهان الناس، ولا في عقولهم ولا عاداتهم.
ولذلك، واصل السكان حياتهم الاعتيادية كما كانت قبل الاستقلال وميلاد الكيانات الادارية الجديدة.
ظلت الطرق التقليدية لممارسة الأنشطة السياسية والاقتصادية في هذه المساحات على ما كانت عليه في عهد “اللادولة” و”اللاحدود”: طرق المرور والأسواق والمراعي ومواسم الانتفاع والانتجاع، إلخ..
أعني بهذا أن “إغلاق” الحدود و”الفصل” بين الشعوب أمر بالغ الصعوبة لأن السكان لا يتصورون الحدود جدران “فصل” بل نقاط أخوة وتواصل وتعايش والتقاء..
ولذلك، أعتقد أن الرهان على “احتواء” حركة المرور ومنع المواطنين من العبور إلى هذا بلد أو ذاك رهان خاسر. أقترح ابتكار مقاربات جديدة لإدارة وتسيير مناطق الحدود على أساس الشراكة والتكافل والتعاون الأهلي والطبيعي.
أفكر مثلا في إحياء التوأمة التاريخية بين المدن والقرى، وتفعيل العهود القديمة، والعودة إلى الوساطات والطرق التقليدية لحل النزاعات.
وأفكر في إقامة مجالس شعبية مشتركة تُعنى بشؤون الأمن والصحة والأسواق، وتسيير المراعي والمياه والغطاء النباتي.
وأفكر في فتح محطات إذاعية محلية مشتركة لتوجيه المواطنين وتزويدهم بما يحتاجونه من أخبار ومعلومات وبرامج تثقيفية وترفيهية تعزز الوحدة والعيش المشترك.
هذا علاوة على ما تقرر من تسيير دوريات عسكرية مشتركة، وتنسيق دبلوماسي وأمني على أعلا المستويات.
لا تعطوا لمسألة “احترام” الحدود أكثر مما تستحق.
إن ما يجري في منطقة الساحل من صراعات بين الأعراق والقوميات والهويات والحركات هو أشبه ما يكون بما كان في منطقة “البلقان” قبل تسعينيات القرن الماضي.
ويطرح أسئلة عديدة حول مبدأ “حرمة” الحدود الموروثة عن الاستعمار في ظل عجز الدول عن الوحدة والاندماج والعيش المشترك؟
هل يمكن بناء دولة متماسكة وموحّدة ضمن حدود مصطنعة تُشتت المجتمعات وتقطّع أوصال الاثنيات والأعراق والثقافات؟
شخصيا، أشك في ذلك، ولا أستطيع الجزم بعكسه.
ماأعرفه فقط هو أن “حرمة” هذه الحدود و”قدسيتها” ما أنزل الله بها من سلطان؛ وإنما جاء بها الاستعمار من عند نفسه (برلين 1884-1885)، ولخدمة مصالحه.
وأعرف كذلك أن مبدأ “حرمتها” كان موضع خلاف عميق على مستوى القادة الأفارقة إبان الاستقلال بين دعاة النهج “التقدمي” في “مجموعة الدار البيضاء” (غانا، ومصر، وليبيا، وغينيا، ومالي، والمغرب، والجزائر) من جهة، ودعاة النهج “المعتدل” في “مجموعة مونروفيا” (ليبيريا، ونيجيريا، والسينغال، وتونس، وساحل العاج، وإثيوبيا) من جهة أخرى.
وكانت مجموعة “الدار البيضاء” تطالب بالاندماج الافريقي وتصحيح الإرث الاستعماري ومراجعته، في حين كانت مجموعة “مونروفيا” تميل إلى “البراغماتية”، والقبول بالأمر الواقع.
وقد توافرت عوامل عدة جعلت مبدأ “حرمة” الحدود ينتصر داخل منظمة الوحدة الأفريقية دون أن يُحسم النقاش على الصعيد الفكري والمبدئي.
اليوم، وقد مضت 58 سنة على مؤتمر القاهرة (1964) حيث تقرر عمليا مبدأ “قدسية” الحدود الموروثة عن الاستعمار و “حرمتها”، يحق لنا أن نطرح الأسئلة التالية:
ما الفائدة من هذه الحدود؟ ولماذا البقاء عليها وقد تغيرت خريطة العالم من حولنا؟
ماذا يعني بقاء أفريقيا على “برلين” وقد تحرر العالم من “يالطا”؟
وما مزايا “حرمة” الحدود من منظور التنمية والتقدم والوحدة والاستقرار؟
ألم تتعافى منطقة “البلقان” من ثقل الماضي؟
ألم تهدأ فيها نيران الهويات ولهيب الصراعات؟
ألم تندمج في محيطها الأوروبي؟
لماذا إذَن لا تفكر إفريقيا في التحرر من حدود الاستعمار والسعي إلى التكامل الفعال؟
محمد فال ولد بـلال